البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

ومن في { من حيث سكنتم } للتبعيض : أي بعض مكان سكناكم .

وقال قتادة : إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه ، قاله الزمخشري .

وقال الحوفي : من لابتداء الغاية ، وكذا قال أبو البقاء .

و { من وجدكم } .

قال الزمخشري : فإن قلت : فقوله : { من وجدكم } .

قلت : هو عطف بيان ، كقوله : { من حيث سكنتم } وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه ، والوجد : الوسع والطاقة . انتهى .

ولا نعرف عطف بيان يعاد فيه العامل ، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً من قوله : { من حيث سكنتم } .

وقرأ الجمهور : { من وجدكم } بضم الواو ؛ والحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتحها ؛ والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب : بكسرها ، وذكرها المهدوي عن الأعرج ، وهي لغات ثلاثة بمعنى : الوسع .

والوجد بالفتح ، يستعمل في الحزن والغضب والحب ، ويقال : وجدت في المال ، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة ، ووجدت الضالة وجداناً والوجد بالضم : الغنى والقدرة ، يقال : افتقر الرجل بعد وجد .

وأمر تعالى بإسكان المطلقات ، ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت .

وأما المبتوتة ، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد : لها السكنى ، ولا نفقة لها .

وقال الثوري وأبو حنيفة : لها السكنى والنفقة .

وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور : لا سكنى لها ولا نفقة .

{ ولا تضاروهن } : ولا تستعملوا معهن الضرار ، { لتضيقوا عليهن } في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج .

وقيل : هذه المضارة مراجعتها إذا بقي من عدتها قليل ، ثم يطلقها فيطول حبسها في عدته الثانية .

وقيل : إلجاؤها إلى أن تفتدي منه .

{ وإن كن أولات حمل } : لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها ، بتت أو لم تبت .

فإن كانت متوفى عنها ، فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها ؛ وعن علي وابن مسعود : تجب نفقتها في التركة .

{ فإن أرضعن لكم } : أي ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة ، وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد بينهن ما لم يبن ، ويجوز عند الشافعي .

وفي تعميم المطلقات بالسكنى ، وتخصيص أولات الأحمال بالنفقة دليل على أن غيرها من المطلقات لا يشاركها في النفقة ، وتشاركهن في السكنى .

{ وأتمروا } : افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمروا ، إذا أمر بعضهم بعضاً ؛ والخطاب للآباء والأمهات ، أي وليأمر بعضكم بعضاً { بمعروف } : أي في الأجرة والإرضاع ، والمعروف : الجميل بأن تسامح الأم ، ولا يماكس الأب لأنه ولدهما معاً ، وهما شريكان فيه ، وفي وجوب الإشفاق عليه .

وقال الكسائي : { وائتمروا } : تشاوروا ، ومنه قوله تعالى : { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } وقول امرىء القيس :

ويعدو على المرء ما يأتمر . . .

وقيل : المعروف : الكسوة والدثار .

{ وإن تعاسرتم } : أي تضايقتم وتشاكستم ، فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية ، وأبي الزوج الزيادة ، أو إن أبى الزوج الإرضاع إلا مجاناً ، وأبت هي إلا بعوض ، { فسترضع له أخرى } : أي يستأجر غيرها ، وليس له إكراهها .

فإن لم يقبل إلا ثدي أمه ، أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها ، ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة ، بل المنكوحة في معناها .

وقيل : فسترضع خبر في معنى الأمر ، أي فلترضع له أخرى .

وفي قوله : { فسترضع له أخرى } يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم .

والضمير في له عائد على الأب ، كما تعدى في قوله : { فإن أرضعن لكم } : أي للأزواج .