فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

{ اسكنوهن من حيث سكنتم } هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان ما يحب للنساء المطلقات وغيرهن من المفارقات من السكنى ، ومن للتبغيض أي بعض مكان سكناكم قاله الزمخشري ، وقال الكسائي والرازي : من زائدة ، وقال الحوفي وأبو البقاء : إنها لابتداء الغاية .

{ من وجدكم } أي من سعتكم وطاقتكم ، وقال ابن عباس : من سعيكم والوجد بالحركات الثلاث ، والمشهور باتفاق القراء بالضم بمعنى المقدرة ، قال الفراء : يقول : على من يجد فإن كان موسعا وسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيرا فعلى ذلك ، قال قتادة : إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثا هل لها سكنى ونفقة أو لا ؟ فذهب مالك والشافعي إلى أن لها سكنى ولا نفقة لها ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن لها النفقة والسكنى ، وذهب أحمد واسحق وأبو ثور إلى أنه لا نفقة لها ولا سكنى ، وهذا هو الحق وقد قرره الشوكاني في شرحه للمنتقي بما لا يحتاج الناظر فيها إلى غيره ، وأوضحاه في الروضة الندية شرح الدرر البهية .

{ ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } نهى سبحانه عن مضارتهن بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة ، وقال مجاهد : في المسكن ، وبه قال ابن عباس ، وقال مقاتل : في النفقة ، وقال أبو الضحى : هو أن يطلقها فإذا بقى يومان من عدتها راجعها ثم طلقها { وإن كن } أي المطلقات الرجعيات أو البائنات دون الحوامل المتوفي عنهن .

{ أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } أي إلى غاية هي وضعهن للحمل ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع ، وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا ينفق عليها إلا من نصيبها ، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة المطهرة ، قال ابن عباس في الآية : فهذه في المرأة يطلقها زوجها وهي حامل فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع ، وإن أرضعت حتى تفطم فإن أبان طلاقها وليس لها حمل فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ولا نفقة لها .

{ فإن أرضعن لكم } أولادكم بعد ذلك { فآتوهن أجورهن } أي أجور إرضاعهن ، والمعنى أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهن منهن ، فلهن أجورهن على ذلك .

{ وائتمروا بينكم بمعروف } هو خطاب للأزواج والزوجات ، يعني تشاوروا بينكم بما هو معروف غير منكر ، وليقبل بعضكم من بعض من المعروف والجميل ، قال الكسائي : ائتمروا تشاوروا ، وتلا قوله تعالى : { إن الملأ يأتمرون بك } وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضا بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم ، قال مقاتل : المعنى ليتراض الأب والأم على أجر مسمى ، قيل : والمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر ، والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر .

{ وإن تعاسرتم } في حق الولد وأجر الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم الجر وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر { فسترضع له أخرى } أي يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده ، ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة ، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر ، وقال الضحاك : إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر ، وهو خبر بمعنى الأمر ، والظاهر أنه على بابه ، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة ، لأن المبذول من جهتها اللبن ، وهو غير متمول ، ولا يضن به لا سيما على الولد بخلاف ما يبذل من الأب فإنه مال يضن به عادة .