قوله تعالى : { والخيل } ، يعني : وخلق الخيل ، وهي اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء ، { والبغال والحمير لتركبوها وزينة } ، يعني وجعلها زينة لكم مع المنافع التي فيها . وأحتج بهذه الآية من حرم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس ، وتلا هذه الآية ، فقال : هذه للركوب والية ذهب الحكم ، ومالك ، وأبو حنيفة . وذهب جماعة إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن و شريح وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . ومن أباحها قال : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم بل المراد منه تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، واحتجوا بما : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا احمد بن عبد الله ألنعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن عمرو- هو ابن دينار-عن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه قال : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل " .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أنبأنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أنبأنا أبو احمد عبد الله بن عدي الحافظ حدثنا الحسن بن الفرج ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عبد الكريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر أنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عن أكل لحوم البغال والحمير .
روى عن المقدام بن معد يكرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وإسناده ضعيف . { ويخلق ما لا تعلمون } ، قيل : يعني ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها ، مما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر . وقال قتادة يعني : السوس في النبات والدود في الفواكه .
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده ، يمتن به عليهم ، وهو : الخيل والبغال والحمير ، التي جعلها للركوب والزينة بها ، وذلك أكبر المقاصد منها ، ولما فَصَلها من الأنعام وأفردها بالذكر استدل من استدل من العلماء - ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل - بذلك على ما ذهب إليه فيها ، كالإمام أبي حنيفة ، رحمه الله{[16323]} ومن وافقه من الفقهاء{[16324]} ؛ لأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير ، وهي حرام ، كما ثبتت به السنة النبوية ، وذهب إليه أكثر العلماء .
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أنبأنا هشام الدَّسْتُوَائي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن مولى نافع بن علقمة ، أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله : { وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فهذه للأكل ، { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } فهذه للركوب{[16325]} .
وكذا روي من طريق سعيد بن جُبَير وغيره ، عن ابن عباس ، بمثله . وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة{[16326]} رضي الله عنه{[16327]} أيضا ، واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده :
حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب ، عن أبيه ، عن جده ، عن خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل ، والبغال ، والحمير .
وأخرجه أبو داود والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث صالح بن يحيى بن المقدام - - وفيه كلام - به{[16328]} .
ورواه أحمد أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال :
حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا سليمان بن سليم ، عن صالح بن يحيى بن المقدام ، عن جده المقدام بن معد يكرب قال : غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة ، فقَرِم{[16329]} أصحابنا إلى اللحم ، فسألوني رَمَكة ، فدفعتها إليهم فَحبَلوها وقلت{[16330]} : مكانكم حتى آتي خالدًا فأسأله . فأتيته فسألته ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر ، فأسرع الناس في حظائر يهود ، فأمرني أن أنادي : " الصلاة جامعة ، ولا يدخل الجنة إلا مسلم " ثم قال : " أيها الناس ، إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود ، ألا لا تحل{[16331]} أموال المعاهدين إلا بحقها ، وحرام عليكم لحوم الأتن{[16332]} الأهلية وخيلها وبغالها ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " {[16333]} .
والرمكة : هي الحِجْرَة . وقوله : حَبَلوها ، أي : أوثقوها في الحبل ليذبحوها . والحظائر : البساتين القريبة من العمران .
وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر ، والله أعلم .
فلو صحّ هذا الحديث لكان نصًا في تحريم لحوم الخيل ، ولكن لا يقاوِمُ ما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل{[16334]} .
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين ، كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ، ولم ينهنا عن الخيل{[16335]} .
وفي صحيح مسلم ، عن أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة{[16336]} .
فهذه أدل وأقوى وأثبت ، وإلى ذلك صار جمهورُ العلماء : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، وأكثر السلف والخلف ، والله أعلم .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشية ، فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم ، عليهما السلام .
وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته : أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب ، والله{[16337]} أعلم .
فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ، ومنها البغال . وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة ، فكان يركبها ، مع أنه قد نَهَى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل .
قال الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبيد ، حدثنا عمر من آل حذيفة ، عن الشعبي ، عن دحْية الكلبي قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أحمل لك حمارًا على فرس ، فتنتج لك بغلا فتركبها ؟ قال : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " {[16338]} .
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضا لتَرْكَبُوهَا وزِينَةً يقول : وجعلها لكم زينةً تتزينون بها مع المنافع التي فيها لكم ، للركوب وغير ذلك . ونصب الخيل والبغال عطفا على الهاء والألف في قوله : خَلَقَها . ونصب الزينة بفعل مضمر على ما بيّنت ، ولو لم يكن معها واو وكان الكلام : «لتركبوها زينةً كانت منصوبة بالفعل الذي قبلها الذي هي به متصلة ، ولكن دخول الواو آذنت بأن معها ضمير فعل وبانقطاعها عن الفعل الذي قبلها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : لتَرْكَبُوها وَزِينَةً قال : جعلها لتركبوها ، وجعلها زينة لكم .
وكان بعض أهل العلم يرى أن في هذه الاَية دلالة على تحريم أكل لحوم الخيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو ضمرة ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن ابن عباس ، قوله : والخَيْلَ والبغالَ والحَميرَ لتَرْكَبُوها قال : هذه للركوب . والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ قال : هذه للأكل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا هشام الدستوائي ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن مولى نافع بن علقمة : أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ فهذه للأكل ، والخَيْلَ والبغالَ والحَميرَ لتَرْكَبُوها فهذه للركوب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس : أنه سئل عن لحوم الخيل ، فكرهها وتلا هذه الاَية : والخَيْلَ والبغالَ والحَميرَ لتَرْكَبُوها . . . الاَية .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنه سئل عن لحوم الخيل ، فقال : اقرأ التي قبلها : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ومنَافِعُ ومَنْها تَأْكُلُونَ والخَيْلَ والبغالَ والحَميرَ لتَرْكَبُوها وَزِينَةً فجعل هذه للأكل ، وهذه للركوب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ فجعل منه الأكل . ثم قرأ حتى بلغ : والخَيْلَ والبغالَ والحَميرَ لتَرْكَبُوها قال : لم يجعل لكم فيها أكلاً . قال : وكان الحكم يقول : والخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن أبي غنية ، عن الحكم ، قال : لحوم الخيل حرام في كتاب الله . ثم قرأ : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ . . . إلى قوله : لتَرْكَبُوها .
وكان جماعة غيرهم من أهل العلم يخالفونهم في هذا التأويل ، ويرون أن ذلك غير دالّ على تحريم شيء ، وأن الله جلّ ثناؤه إنما عرّف عباده بهذه الاَية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمة عليهم ونبههم به على حججه عليهم وأدلته على وحدانيته وخطأ فعل من يشرك به من أهل الشرك . ذكر بعض من كان لا يرى بأسا بأكل لحم الفرس :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن الأسود : أنه أكل لحم الفرس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود بنحوه .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : نحر أصحابنا فرسا في النجع وأكلوا منه ، ولم يروا به بأسا .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني ، وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره : لِتَرْكَبُوها دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للركوب للأكل لكان في قوله : فِيها دِفْءٌ ومنَافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب . وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره وَمِنْها تَأْكُلُونَ جائز حلال غير حرام ، دليل واضح على أن أكل ما قال : لِتَرْكَبُوها جائز حلال غير حرام ، إلا بما نصّ على تحريمه أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما بهذ الاَية فلا يحرم أكل شيء . وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمُر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى البغال بما قد بيّنا في كتابنا كتاب الأطعمة بما أغنى غعن إعادته في هذا الموضع ، إذا لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك ، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدلّ على أنه لا وجه لقول من استدلّ بهذه الاَية على تحريم لحم الفرس .
حدثنا أحمد ، حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عبد الكريم ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : كنا نأكل لحم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : فالبغال ؟ قال : أما البغال فلا .
وقوله : وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره : ويخلق ربكم مع خلقه هذه الأشياء التي ذكرها لكم ما لا تعلمون مما أعدّ في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر .
وقوله تعالى : { والخيل } عطف أي وخلق الخيل ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «والخيلُ والبغالُ والحميرُ » بالرفع في كلها ، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في المشية ، أفهمه أعرابي لأبي عمرو بن العلاء ، وقوله { وزينة } نصب بإضمار فعل ، قيل تقديره وجعلنا زينة ، وقرأ ابن عياض «لتركبوها زينة » دون واو ، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في { تركبوها }{[7255]} وقوله { ويخلق ما لا تعلمون } عبرة منصوبة على العموم ، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر ، بل ما يخفى عنه أثر مما يعلمه ، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان منها في البر أربعمائة ، وبثها بأعيانها في البحر ، وزاد في مائتين ليست في البر .
قال القاضي أبو محمد :وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئاً ، كقول من قال : سوس الثياب وغير ذلك فإنما هو على جهة المثال ، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه . قال الطبري { ما لا تعلمون } هو ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ، واحتج بهذه الآية مالك رحمه الله ومن ذهب مذهبه في كراهة لحوم الخيل والبغال والحمير أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك ، وذكر الطبري عن ابن عباس ، قال ابن جبير : سئل ابن عباس عن لحوم الخيل والبغال والحمير ، فكرهها فاحتج بهذه الآية ، وقال : جعل الله الأنعام للأكل ، وهذه للركوب ، وكان الحكم بن عتبة يقول : الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله ويحتج بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء ، قالوا إنما ذكر الله عز وجل عظم منافع الأنعام ، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها ، وليس يقضي ذلك بأن ما ذكر لهذه لا تدخل هذه فيها ، قال الطبري وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل ، دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال ، وفي جواز أكلها حديث أسماء بنت أبي بكر ، وحديث جابر بن عبد الله : كنا نأكل الخيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم{[7256]} .
قال القاضي أبو محمد : والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور ، وهو تحقيق مذهب مالك ، ومن حجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس ، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر ، وأنها ذوات حوافر ، وأنها لا أكراش لها ، وأنها متداخلة في النسل ، إذ البغال بين الحمير والخيل فهذا من جهة النظر ، وأما من جهة الشرع بأن قرنت في هذه الآية وأسقطت فيها الزكاة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكرهم النعم: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}، يقول: لكم في ركوبها جمال وزينة، يعني: الشارة الحسنة.
{ويخلق ما لا تعلمون} من الخلق...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضا "لتَرْكَبُوهَا وزِينَةً "يقول: وجعلها لكم زينةً تتزينون بها مع المنافع التي فيها لكم، للركوب وغير ذلك...
وكان بعض أهل العلم يرى أن في هذه الآية دلالة على تحريم أكل لحوم الخيل... وكان جماعة غيرهم من أهل العلم يخالفونهم في هذا التأويل، ويرون أن ذلك غير دالّ على تحريم شيء، وأن الله جلّ ثناؤه إنما عرّف عباده بهذه الآية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمة عليهم ونبههم به على حججه عليهم وأدلته على وحدانيته وخطأ فعل من يشرك به من أهل الشرك...
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني، وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره: "لِتَرْكَبُوها" دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للركوب للأكل لكان في قوله: "فِيها دِفْءٌ ومنَافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ" دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره وَمِنْها تَأْكُلُونَ جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال: "لِتَرْكَبُوها" جائز حلال غير حرام، إلا بما نصّ على تحريمه أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء...
وقوله: "وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: ويخلق ربكم مع خلقه هذه الأشياء التي ذكرها لكم ما لا تعلمون...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ويخلق ما لا تعلمون "من أنواع الحيوان والجماد والنبات لمنافعكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يجوز أن يريد به: ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة له في طيه...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{وَيَخْلُقُ مَا لاً تَعْلَمُونَ} ذكر قوم من المفسرين: أن المراد به عجائب المخلوقات في السموات والأرض...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الأنعام أكثر أموالهم، مع أن منافعها أكثر، بدأ بها ثم ثنى بما هو دونها، مرتباً له على الأشرف فالأشرف، فقال تعالى: {والخيل} أي الصاهلة {والبغال} أي المتولدة بينها وبين الحمر {والحمير} أي الناهقة.
ولما كان الركوب فعل المخاطبين، وهو المقصود بالمنفعة، ذكره باللام التي هي الأصل في التعليل فقال: {لتركبوها} ولما كانت الزينة تابعة للمنفعة، وكانت فعلاً لفاعل الفعل المعلل، نصبت عطفاً على محل ما قبلها فقال: {وزينة}.
ولما دل على قدرته بما ذكر في سياق الامتنان، دل على أنها لا تتناهى في ذلك السياق، فنبه على أنه خلق لهم أموراً لو عدها لهم لم يفهموا المراد منها لجهلهم بها، ولعلها أجل منافع مما ذكر فقال: (ويخلق) أي على سبيل التجديد والاستمرار في الدنيا والآخرة {ما لا تعلمون} فلا تعلمون له موجداً غيره ولا مدبراً سواه.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}...ما لا تعلمون كنهَه وكيفيةَ خلقِه، فالعدولُ إلى صيغة الاستقبال للدِلالة على الاستمرار والتجددِ أو لاستحضار الصورة..ويجوز أن يكون هذا إخباراً بأنه سبحانه يخلق من الخلائق ما لا علمَ لنا به دَلالةً على قدرته الباهرة الموجبةِ للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (ويخلق ما لا تعلمون).. يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة.. ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم. فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها. ولا يقولوا: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها. وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها!. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها، ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهئ القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة، ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل. استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة. ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان. وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان. والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان، بلا جمود ولا تحجر (ويخلق ما لا تعلمون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...لا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند المنعم عليهم، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحَرث بالإبل والخيل والبغال والحمير، وهو مما يفعله المسلمون ولا يعرف منكر عليهم. أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفاً للناس من قبلُ، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} في سورة البقرة (29)، فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم الأحوال عدا ما خصّصه الدليل مما في آية الأنعام (145) {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه} الآية.