محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

[ 8 ] { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون 8 } .

ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة ، فقال : { والخيل والبغال والحمير } عطف على { الأنعام } { لتركبوها وزينة } عطف محل { لتركبوها } فهي مفعول له أو مصدر لمحذوف . أي وتتزينوا بها زينة . أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل { تركبوها } أو مفعوله . أي متزينين بها . أو متزينا بها . وسر التصريح باللام في المعطوف عليه ، دون المعطوف ، هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصلي في الأصناف ، هو الركوب . وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب . فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل . تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين . وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب . والله أعلم . كذا في ( الانتصاف ) .

تنبيه :

استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل ، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على / أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها . قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر ، وإخراجها عن الأنعام . فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل . قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزا ، لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب ، لأنه أعظم فائدة منه . وأجاب المجوّزون لأكلها ، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب ، لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها ، لا ينافي غيره .

ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب . وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية . وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها ، عام خيبر . وقد قدمنا أن هذه السورة مكية .

والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل ، فلو سلمنا أن هذه الآية متمسكا للقائلين بالتحريم ، لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال . وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل ، أحاديث : منها ما في ( الصحيحين ) {[5223]} وغيرهما ، من حديث أسماء قالت : " نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا ، فأكلناه " . وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي{[5224]} وصححه النسائي{[5225]} وغيرهم من جابر قال : " أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية " . وأخرج أبو داود / نحوه . وثبت أيضا في ( الصحيحين ) {[5226]} من حديث جابر قال : " نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل " .

وأما ما أخرجه أبو داود{[5227]} والنسائي{[5228]} وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير " ، ففي إسناده صالح بن يحيى . فيه مقال . ولو فرض صحته لم يقوّ على معارضة أحاديث الحل . على أنه يمكن أن يكون متقدما على يوم خيبر ، فيكون منسوخا . كذا في ( فتح البيان ) .

وفي ( الإكليل ) : أخذ المالكية ، من الاقتران المذكور ، ردا على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها ، أي الخيل . وقوله تعالى :

{ ويخلق ما لا تعلمون } أي من المخلوقات في القفار والبحار ، وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار . أو لاستحضار الصورة .


[5223]:أخرجه البخاري في: 72- كتاب الذبائح والصيد، 24- باب النحر والذبح، حديث 2202. وأخرجه مسلم في: 34- كتاب الصيد والذبائح، حديث 39 (طبعتنا).
[5224]:أخرجه الترمذي في: 23- كتاب الأطعمة، 5- باب ما جاء في أكل لحوم الخيل.
[5225]:أخرجه النسائي في: 42- كتاب الصيد والذبائح، 29- باب الإذن في أكل لحوم الخيل.
[5226]:أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي، 38- باب غزوة خيبر، حديث 1909. وأخرجه مسلم في: 34- كتاب الصيد والذبائح، حديث رقم 36 (طبعتنا).
[5227]:أخرجه أبو داود في: 26- كتاب الأطعمة، 25- باب في أكل لحوم الخيل، حديث رقم 3788.
[5228]:أخرجه النسائي في: 42- كتاب الصيد والذبائح، 30- باب تحريم أكل لحوم الخيل.