تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

الآية 8 : وقوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } قوله : { وزينة } يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الماشي هو دون الراكب ، والمشي يورث نقصانا في الوزن{[10058]} ، والركوب لا ، وذلك زينة على ما ذكر في قوله { ولكم فيها جمال } ( النحل : 6 ) .

والثاني : أن الراكب إذا نظر إلى الماشي سر بركوبه ، فالسرور يظهر في وجهه وذلك يزيد في حسنه وجماله . وأصله ما ذكر عز وجل { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع } الآية [ وقال : ]{[10059]} { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } بين أنه لماذا خلق الأنعام ، وما جعل فيها ؟ وهو ما ذكر أنه جعل فيها الدفء والمنافع { ومنها تأكلون } وبين أنه لماذا خلق الخيل ؟ وهو ما ذكر { لتركبوها وزينة } .

وسئل ابن عباس رضي الله عنه : عن لحوم الخيل ، فقرأ : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } ولم يقل لتأكلوها ، فكره أكلها لذلك .

وتمام هذا [ في وجهين :

أحدهما ]{[10060]} : أن الله ذكر الأنعام ، وما ذكر من النعم والانتفاع بها ، وبالغ في ذكرها لأنه قال : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } وقال : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } وقال : { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر } ( النحل : 10 ) وقال : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } ( النحل : 11 ) وقال : { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } ( النحل : 14 ) إلى آخر ما ذكر .

ذكر جميع ما ينتفع به من أنواع المنافع ذكرا شافيا غير مكفي . فدل ما ذكر في الخيل ممن الركوب وكذلك في البغال والحمير على أنه ليس فيها منفعة أخرى سوى ما ذكر ، وهو الركوب ؛ إذا خرج الذكر لها على المبالغة والاستقصاء ليس على الاكتفاء . ولو كان هناك منفعة أخرى لذكر ما ذكر في غيره ، والله أعلم .

والثاني : من الأشياء أشياء يعرف خبثها بنفار الطباع ، والصبيان أول ما يبلغون{[10061]} يرغبون في ركوبها ، لا أحد يرغب في أكلها إلا من غير طبعه عما كان مجبولا به ، فهو يرغب في أكلها{[10062]} . وأما من ترك وطبعه يستخبثها{[10063]} ، وينفر طبعه عن أكلها{[10064]} ، والله أعلم .

وروي عن جابر [ أنه ]{[10065]} قال : لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعة ، وأخذوا الحمر الأهلية ، فذبحوها ، فحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الحمر الإنسية ولحوم الخيل والبغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وحرم الخُلْسَة والنُهبَة .

وروي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ذلك . قال : أطعمنا رسول الله لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر ( البخاري : 5520 ) .

وعن أسماء بنت أبي بكر [ أنها ]{[10066]} قالت : نحرنا فرسا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكلناه ( البخاري : 5519 ) .

وفي بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر ، وأذن لنا في لحوم الخيل . قلنا : قد يجوز أن يكونوا أكلوه في الحال التي كان يؤكل فيها الحمر ؛ لأن النبي إنما نهى عن أكل لحوم الخيل صريحا{[10067]} فقد يجوز أن يكونوا أكلوا لحم الفرس في حال الإباحة ، إذ لم يذكروا الوقت .

وعن الحسن [ أنه ]{[10068]} قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم ، وكان الحسن لا يرى فيها بأسا على كل حال . وقول الحسن : إنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم يدل على أنهم كانوا يأكلون في حال الضرورة .

روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( الخيل لثلاثة : فهي لرجل كذا أو لرجل آخر كذا وعلى رجل وزر ) ( البخاري : 2860 ) يبين أنها لا تصلح لغير ذلك . و لو صلحت للأكل لقال : الخيل لأربعة ولقال : ولرجل طعام .

وكما يبين ما ذكرنا أن البغل حرام ، وهو من الفرسة ، فلو كانت أمه حلالا كان هو أيضا حلالا . ولأن حكم الولد حكم أمه ، لأنه منها ، وهو كبعضها ، فمن حرم البغل لزمه أن يحرم لحم الفرسة في حكم النظر والمقايس .

أفلا ترى أنه جعل حكم الولد حكم أمه ، ولم يعتبر بالفحل ؟ فلما كان لحم البغل حراما وجب أن يكون لحم الفرسة كذلك .

إلا أن أبا حنيفة ، رحمه الله ، كان لا يطلق تحريم أكلها لما فيها من الشبهة [ لاختلاف الأحاديث ]{[10069]} المروية عن رسول الله . لكنه ذكر الكراهة للشبهة التي فيها .

وكان أبو يوسف ، رحمه الله ، يبيح أكلها .

وقد يجوز أن يحتج لأبي يوسف في الفرق بين المولود من الفرسة وبين ولد الحمارة الوحشية ، إذا ترى ، عليها حمار أهلي ، بأن ولد الحمار لم يتغير عن جنس أمه ، فحكمه حكمها . والبغل ليس من جنس أمه ، هو من جنس ثالث . فذلك لم يكن سبيلها بسبيله ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ويخلق ما لا تعلمون } أخبر أنه يخلق ما لا نعلم ، فليس لنا أن نتكلف في علم ذلك ، أو يخلق من النعم في ما خلق { ما لا تعلمون } أنتم أنها نعم ، أو قال : يقول قوم : إنه ليس لله أن يخلق شيئا لا يطلع الممتحن عليه .


[10058]:في الأصل وم: الوجه.
[10059]:ساقطة من الأصل وم.
[10060]:ساقطة من الأصل وم.
[10061]:في الأصل وم: بلغوا.
[10062]:في الأصل وم: أكله.
[10063]:في الأصل وم: يستخبث.
[10064]:في الأصل وم: أكله.
[10065]:ساقطة من الأصل وم.
[10066]:ساقطة من الأصل وم.
[10067]:في الأصل وم: صحيحا.
[10068]:ساقطة ممن الأصل وم.
[10069]:في الأصل وم: والاختلاف والأحاديث.