فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( 8 ) }

{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ } أي وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف ، وسميت الخيل خيلا لاختيالها في مشيها وواحد الخيل خائل كضائن واحد الضأن ، وقيل اسم جنس لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو الفرس ، والبغال جمع بغل وهو المتولد من الخيل والحمير والحمير جمع حمار .

ثم علل سبحانه خلق هذه الأنواع الثلاثة بقوله : { لِتَرْكَبُوهَا } وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها { وَزِينَةً } عطف على محل لتركبوها لأنها في محل نصب على أنه علة لخلقها ، ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها ، لأن الركوب فعل المخاطبين والزينة فعل الزائن وهو الخالق .

والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب ، فكأنه سبحانه قال خلقتها لتركبوها فتدفعوا بواسطتها عن أنفسكم ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات .

وقد استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها ، قالوا ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام ، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل ، قالوا ولو كان أكل الخيل جائزا لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب لأنه أعظم فائدة منه .

وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم ، وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل ، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحق ، ولا حجة لأهل القول الأول في التعليل بقوله لتركبوها ، لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره ، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب .

وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر ، وقد قدمنا أن هذه السورة مكية .

والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل ، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكا للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال ، وقد أوضح الشوكاني هذه المسألة في مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره .

وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا فأكلناه{[1041]} .

وأخرج أبو عبيد وابن شيبة والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية{[1042]} وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضا وهما على شرط مسلم .

وثبت أيضا في الصحيحين من حديث جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في الخيل{[1043]} .

وأما ما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير ، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام وفيه مقال ، ولو فرضنا أن الحديث صحيح لم يقو على معارضة أحاديث الحل ، على أنه يمكن أن هذا الحديث المصرح بالتحريم متقدم على يوم خيبر فيكون منسوخا .

{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الأشياء العجيبة والغريبة مما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدده ههنا ، وقيل المراد من أنواع الحشرات والهوام وفي أسافل الأرض وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوه ، وقيل هو ما أعده الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر وقيل هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه ؛ وقيل عين تحت العرش وقيل نهر من النور وقيل أرض بيضاء .

ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد ، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به ، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة ، لأنه سبحانه قد خلق ما لم يعلم به العباد ولا يأتي عليه الحصر والعد . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن مما خلق الله أرضا من لؤلؤة بيضاء ، ثم ساق من أوصافها ما يدل على أن الحديث موضوع ثم قال في آخره فذلك قوله ويخلق ما لا تعلمون ) .


[1041]:مسلم 1942 البخاري / 2202.
[1042]:الترمذي كتاب الصيد باب 9 – أبو داوود كتاب الأطعمة باب 25.
[1043]:مسلم 1941 – البخاري 1909.