فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

{ والخيل والبغال والحمير } بالنصب عطفاً على الأنعام ، أي : وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها ؛ وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل كضائن واحد الضأن ، وقيل : لا واحد له . ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله : { لِتَرْكَبُوهَا } وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها ، لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها { و } عطف { زِينَةُ } على محل { لتركبوها } لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها . ولم يقل : لتتزينوا بها ، حتى يطابق { لتركبوها } لأن الركوب فعل المخاطبين ، والزينة : فعل الزائن وهو الخالق . والتحقيق فيه : أن الركوب هو المعتبر في المقصود ، بخلاف الزينة ، فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية ، لأنه يورث العجب ، فكأنه سبحانه قال : خلقتها لتركبوها ، فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة . وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ، ولكنه غير مقصود بالذات . وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل ، قائلين بأن التعليل بالركوب يدلّ على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها . قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر ، وإخراجها عن الأنعام ، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل . قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزاً لكان ذكره ، والامتنان به أولى من ذكر الركوب ، لأنه أعظم فائدة منه ، وقد ذهب إلى هذا مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والأوزاعي ، ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم . وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدّثين وغيرهم إلى حلّ لحوم الخيل . ولا حجة لأهل القول الأوّل في التعليل بقوله : { لِتَرْكَبُوهَا } لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره ، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ، ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب . وأيضاً لو كانت هذه الآية تدلّ على تحريم الخيل ، لدلت على تحريم الحمر الأهلية ، وحينئذٍ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر ، وقد قدّمنا أن هذه السورة مكية . والحاصل : أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حلّ أكل لحوم الخيل ، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم ، لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال . وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره . { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : يخلق ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدّده ها هنا . وقيل : المراد : من أنواع الحشرات والهوامّ في أسافل الأرض ، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به . وقيل : هو ما أعدّ الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولا خطر على قلب بشر ؛ وقيل : هو خلق السوس في النبات ، والدود في الفواكه ؛ وقيل : عين تحت العرش ؛ وقيل نهر من النور . وقيل : أرض بيضاء ، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع ، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد ، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به ، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة ، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد .

/خ9