السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

وقوله تعالى : { والخيل } أي : الصاهلة وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط . { والبغال } أي : المتولدة بينها وبين الحمير { والحمير } الناهقة عطف على الأنعام ، أي : وخلق هذه الحيوانات { لتركبوها } أي : لأجل أن تركبوها وفي نصب قوله تعالى : { وزينة } أوجه أحدها : أنه مفعول من أجله وإنما وصل الفعل إلى الأوّل باللام في قوله تعالى : { لتركبوها } وإلى هذا بنفسه لاختلاف شرطه في الأوّل وهو عدم اتحاد الفاعل فإنّ الخالق هو الله تعالى والراكب المخاطبون بخلاف الثاني . الثاني : أنها منصوبة على الحال وصاحب الحال إمّا مفعول خلقها وإمّا مفعول لتركبوها فهو مصدر أقيم مقام الحال . الثالث : أن ينتصب بتقدير فعل قدّره الزمخشري بقوله وخلقها زينة وقدّره ابن عطية وغيره بقولهم : وجعلها زينة . الرابع : أنها مصدر لفعل محذوف ، أي : وتتزينون بها زينة .

وتنبيه : احتج القائلون وهم ابن عباس والحاكم وأبو حنيفة ومالك بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية ، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر وحيث لم يذكره تعالى علمنا أنه يحرم أكله لأنّ الله تعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال تعالى : { ومنها تأكلون } [ النحل ، 5 ]

وخص هذه بالركوب فقال : { لتركبوها } فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل واحتج القائلون بإباحة أكل اللحم من الخيل وهم سعيد بن جبير وعطاء وشريح والحسن والشافعي بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما قالت : «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة » . وبما روي عن جابر رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل » . وفي رواية : «أكلنا في زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي » هذه رواية البخاري ومسلم . وفي رواية أبي داود قال : «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابنا مخمصة فنهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ، ولم ينهنا عن الخيل » .

وأجابوا عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أنّ منفعتها مختصة بذلك وإنما خص هاتين المنفعتين بالذكر لأنهما معظم المقصود ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام : { وتحمل أثقالكم } ولم يلزم من ذلك تحريم الأثقال على الخيل . وقال الواحدي : لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذا الحيوان لكان تحريم أكلها معلوماً في مكة لأجل أنّ هذه السورة مكية ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامّة المفسرين والمحدّثين أنّ لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر ، أي : وذلك في المدينة باطلاً لأنّ التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم لم يكن لتخصيص هذا التحريم بهذه السنة فائدة ، قال الرازي : وهذا جواب حسن متين . وقال ابن الخازن : والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أنّ السنة مبينة للكتاب . ولما كان نص الآية يقتضي أنّ الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة وكان الأكل مسكوتاً عنه ودار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت السنة بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير ، أخذنا به جمعاً بين النصين . ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأنواع من الحيوان ذكر باقيها على سبيل الإجمال بقوله تعالى : { ويخلق ما لا تعلمون } وذلك لأنّ أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبه المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية . وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال : إنّ عن يمين العرش نهراً من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل كل يوم ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نفضة تقع من ريشه تقع كذا وكذا ألف ملك يدخل كل يوم منهم سبعون ألفاً البيت المعمور وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة سبحان من له هذا الملك العظيم ، قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر ، 31 ] . وفسر قتادة الآية بالسوس في النبات والدود في الفواكه وفسرها بعضهم بما أعدّ الله تعالى لأهل الجنة في الجنة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .