قوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } بدل من الذين الأولى { إلا أن يقولوا ربنا الله } يعني : لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } بالجهاد وإقامة الحدود ، { لهدمت } قرأ أهل المدينة : بتخفيف الدال . وقرأ الآخرون : بالتشديد على التكثير ، فالتخفيف يكون للتقليل والكثير ، والتشديد يختص بالتكثير { صوامع } قال مجاهد و الضحاك يعني : صوامع الرهبان . وقال فتادة : صوامع الصابئين { وبيع } يعني : بيع النصارى جمع بيعة وهي كنيسة النصارى ، { وصلوات } يعني كنائس اليهود ، ويسمونها بالعبرانية صلوتا { ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } يعني مساجد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى الآية : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم ، لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى البيع والصوامع ، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد . وقال ابن زيد : أراد بالصلوات صلوات أهل الإسلام ، فإنها لا تنقطع إذا دخل العدو عليهم { ولينصرن الله من ينصره } يعني : ينصر دينه ونبيه . { إن الله لقوي عزيز* }
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ }
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني : محمدًا وأصحابه .
{ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : ما كان لهم إلى قومهم إساءة ، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله{[20311]} وحده لا شريك له . وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] . ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ، ويقولون :
لا هُمّ{[20312]} لَولا أنتَ ما اهتَدَينا *** وَلا تَصَدّقَْنا وَلا صَلَّينَا
فَأنزلَنْ سَكينَةً عَلَينَا *** وَثَبّت الأقْدَامَ إنْ لاقَينَا
إنّ الألَى قد بَغَوا عَلَينَا *** إذَا أرَادوا فتْنَةً أبَيْنَا{[20313]}
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا : " إذا أرادوا فتنة أبينا " ، يقول : " أبينا " ، يمد بها صوته .
ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : لولا أنه يدفع عن قوم بقوم ، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم ، بما يخلقه ويقدره من الأسباب ، لفسدت الأرض ، وأهلك القوي الضعيف .
{ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } وهي المعابد الصغار للرهبان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال قتادة : هي معابد الصابئين . وفي رواية عنه : صوامع المجوس .
وقال مقاتل بن حَيَّان : هي البيوت التي على الطرق .
{ وَبِيَعٌ } : وهي أوسع منها ، وأكثر عابدين فيها . وهي للنصارى أيضًا . قاله أبو العالية ، وقتادة ، والضحاك ، وابن{[20314]} صخر ، ومقاتل بن حيان ، وخُصَيف ، وغيرهم .
وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره : أنها كنائس اليهود . وحكى السدي ، عمن حَدّثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس اليهود ، ومجاهد إنما قال : هي الكنائس ، والله أعلم .
وقوله : { وَصَلَوَاتٌ } : قال العوفي ، عن ابن عباس : الصلوات : الكنائس . وكذا قال عكرمة ، والضحاك ، وقتادة : إنها كنائس اليهود . وهم يسمونها صَلُوتا .
وحكى السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس النصارى .
وقال أبو العالية ، وغيره : الصلوات : معابد الصابئين .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الصلوات : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق . وأما المساجد فهي للمسلمين .
وقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } فقد قيل : الضمير في قوله : { يُذْكَرَ فِيهَا } عائد إلى المساجد ؛ لأنها أقرب المذكورات .
وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا .
وقال ابن جرير : الصوابُ : لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب .
وقال بعض العلماء : هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد ، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا ، وهم ذوو القصد الصحيح .
وقوله : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } كقوله{[20315]} تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . وَالذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 7 ، 8 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَصَف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وبعزته لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه ، فقير إليه . ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور ، وعدوه هو المقهور ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] وقال [ الله ]{[20316]} تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ } .
يقول تعالى ذكره : أذن للذين يقاتلون الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ ف «الذين » الثانية ردّ على «الذين » الأولى . وعنى بالمخرجين من دورهم : المؤمنين الذين أخرجهم كفار قريش من مكة . وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم على الإيمان بالله ورسوله ، وسبّهم بعضهم بألسنتهم ووعيدهم إياهم ، حتى اضطرّوهم إلى الخروج عنهم . وكان فعلهم ذلك بهم بغير حقّ لأنهم كانوا على باطل والمؤمنون على الحقّ ، فلذلك قال جلّ ثناؤه : الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ . وقوله : إلا أنْ يَقُولُوا رَبّنا اللّهُ يقول تعالى ذكره : لم يخرجوا من ديارهم إلا بقولهم : ربنا الله وحده لا شريك له ف «أنْ » في موضع خفض ردّا على الباء في قوله : بِغَيْرِ حَقّ ، وقد يجوز أن تكون في موضع نصب على وجه الاستثناء .
وقوله : ولَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ دفع المشركين بالمسلمين .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا القتال والجهاد في سبيل الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهَ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قال : لولا القتال والجهاد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا إبراهيم بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمرو ، عن أبي روق ، عن ثابت بن عوسجة الحضْرميّ ، قال : حدثني سبعة وعشرون من أصحاب عليّ وعبد الله منهم لاحق بن الأقمر ، والعيزار بن جرول ، وعطية القرظيّ ، أن عليّا رضي الله عنه قال : إنما أنزلت هذه الاَية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لولا دفاع الله بأصحاب محمد عن التابعين لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبيَعٌ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لولا أن الله يدفع بمن أوجب قبول شهادته في الحقوق تكون لبعض الناس على بعض عمن لا يجوز قبول شهادته وغيره ، فأحيا بذلك مال هذا ويوقي بسبب هذا إراقة دم هذا ، وتركوا المظالم من أجله ، لتظالَمَ النّاسُ فُهدمت صوامع . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يقول : دفع بعضهم بعضا في الشهادة ، وفي الحقّ ، وفيما يكون من قبل هذا . يقول : لولاهم لأهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض ، لهُدم ما ذكر ، من دفعه تعالى ذكره بعضَهم ببعض ، وكفّه المشركين بالمسلمين عن ذلك ومنه كفه ببعضهم التظالم ، كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفّه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحقّ من له قِبله حق ، ونحو ذلك . وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض ، لولا ذلك لتظالموا ، فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيَعهم وما سمّى جلّ ثناؤه . ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عني من ذلك بعضا دون بعض ، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له ، فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بيّنته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا .
وقوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالصوامع ، فقال بعضهم : عُني بها صوامع الرهبان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع في هذه الاَية : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال : صوامع الرهبان .
حُدثت عن الحسين ، قال : حدثنا سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وهي صوامع الصغار يبنونها .
وقال آخرون : بل هي صوامع الصابئين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : صَوَامِعُ قال : هي للصابئين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لَهُدّمَتْ . فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «لَهُدِمَتْ » خفيفة . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة والبصرة : لَهُدّمَتْ بالتشديد بمعنى تكرير الهدم فيها مرّة بعد مرّة . والتشديد في ذلك أعجب القراءتين إليّ . لأن ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك .
وأما قوله وَبِيَعٌ فإنه يعني بها : بيع النصارى .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم مثل الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع : وَبِيَعٌ قال : بيع النصارى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وَبِيَعٌ للنصارى .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : البِيَعُ : بيع النصارى .
وقال آخرون : عُني بالبيع في هذا الموضع : كنائس اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : وَبِيَعٌ قال : وكنائس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَبِيَعٌ قال : البِيَعُ الكنائس .
قوله : وَصَلَوَاتٌ اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : عني بالصلوات الكنائس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَصَلَوَاتٌ قال : يعني بالصلوات الكنائس .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَصَلَوَاتٌ : كنائس اليهود ، ويسمون الكنيسة صَلُوتَا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وَصَلَوَاتٌ كنائس اليهود .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
وقال آخرون : عني بالصلوات مساجد الصابئين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، قال : سألت أبا العالية عن الصلوات ، قال : هي مساجد الصابئين .
قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع ، نحوه .
وقال آخرون : هي مساجد للمسلمين ولأهل الكتاب بالطرق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَصَلَوَاتٌ قال : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَصَلَوَاتٌ قال : الصلوات صلوات أهل الإسلام ، تنقطع إذا دخل العدوّ عليهم ، انقطعت العبادة ، والمساجد تهدم ، كما صنع بختنصر .
وقوله : وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللّهِ كَثِيرا اختلف في المساجد التي أريدت بهذا القول ، فقال بعضهم : أريد بذلك مساجد المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رُفيع ، قوله : وَمَساجِدُ قال : مساجد المسلمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قَتادة : وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللّهِ كَثِيرا قال : المساجد : مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيرا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، نحوه .
وقال آخرون : عني بقوله : وَمَساجِدُ : الصوامع والبيع والصلوات . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَمَساجِدُ يقول في كلّ هذا يذكر اسم الله كثيرا ، ولم يخصّ المساجد .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : الصلوات لا تهدم ، ولكن حمله على فعل آخر ، كأنه قال : وتركت صلوات . وقال بعضهم : إنما يعني : مواضع الصلوات . وقال بعضهم : إنما هي صلوات ، وهي كنائس اليهود ، تُدعى بالعبرانية : صَلُوتَا .
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لهدمت صوامع الرهبان وبِيعَ النصارى ، وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا .
وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل ذلك لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب المستفيض فيهم ، وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فيما وجهه إليه مَنْ وجهه إليه .
وقوله : وَلَيَنْصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يقول تعالى ذكره : وليعيننّ الله من يقاتل في سبيله ، لتكون كلمته العليا على عدوّه فَنْصُر الله عبده : معونته إياه ، ونَصْرُ العبد ربه : جهاده في سبيله ، لتكون كلمته العليا .
وقوله : إنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ يقول تعالى ذكره : إن الله لقويّ على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته ، عزيز في مُلكه ، يقول : منيع في سلطانه ، لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب .
ثم وعد تعالى بالنصر في قوله { وإن الله على نصرهم لقدير } ، وقوله { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة ، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه{[8389]} ، وقوله { إلا أن يقولوا ربنا الله } استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده فيه البدل وجوزه أبو إسحاق ، والأول أصوب{[8390]} ، وقوله { ولولا دفاع الله } الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات{[8391]} ، فكأنه قال أذن في القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة ، هذا أصوب تأويلات الآية ، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد ، وقال مجاهد { ولولا دفاع الله } ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا ، ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعد الولاة ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المعنى ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية ، وقالت فرقة { ولولا دفاع الله } العذاب بدعاء الفضلاء ونحوه وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية وذلك أن الآية تقتضي ولا بد مدفوعاً من الناس ومدفوعاً عنه فتأمله ، وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت » مخففة الدال ، وقرأ الباقون «لهدّمت » مشددة وهذا تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة كما قال
{ بروج مشيدة }{[8392]} [ النساء : 78 ] فثقل الياء وقال { قصر مشيد }{[8393]} [ الحج : 45 ] فخفف لكونه فرداً { وغلقت الأبواب }{[8394]} [ يوسف : 43 ] و { مفتحة لهم الأبواب }{[8395]} [ ص : 50 ] و «الصومعة » موضع العبادة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى ، والأصمع ، من الرجال الحديد القول وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين ، قاله قتادة ، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعة قال الطبري : وقيل هي كنائس اليهود ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك{[8396]} ، و «الصلوات » مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل ، أو أراد وموضع صلوات ، وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم لشنائع اليهود وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجميع صلاة ، وقال أبو العالية الصلوات مساجد الصابئين ، واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس «صَلَوات » بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين وذلك إما بتقدير ومواضع صلوات وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها ، وقرأ جعفر بن محمد «صَلْوات » بفتح الصاد وسكون اللام ، وقرأت فرقة بكسر الصاد وسكون اللام حكاها ابن جني ، وقرأ الجحدري فيما روي عنه «وصُلُوات » بتاء بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام على وزن فعول قال وهي مساجد النصارى ، وقرأ الجحدري والحجاج بن يوسف «وصُلُوب » بضم الصاد واللام والباء على أنه جمع صليب ، وقرأ الضحاك والكلبي «وصُلُوث » بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثاً قالوا وهي مساجد اليهود ، وقرأت فرقة «صَلْوات » بفتح الصاد وسكون اللام{[8397]} ، وقرأت فرقة «صُلُوات » بضم الصاد واللام حكاها ابن جني ، وقرأت فرقة «صلوثا » بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء ، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتاً يدفن فيها النصارى يقال لها «صلوات » ، وقرأ عكرمة ومجاهد «صلويثا » بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء{[8398]} قال القاضي : وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم ، و «الصوامع » للرهبان ع وقيل للصابئين ، و «البيع » للنصارى ، و «الصلوات » لليهود و «المساجد » للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب ، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع ، وقوله { يذكر فيها } الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره نصرة دينه وشرعه ، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقاً إلى يوم القيامة .