قوله : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ } يجوز أن يكون «الذين » في محل جر نعتاً للموصول الأول{[31326]} ، أو بياناً له ، أو بدلاً منه وأن يكون في محل نصب على المدح ، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ {[31327]} .
لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظُلموا ، فسر ذلك الظلم بقوله { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } ، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين :
الأول : أنهم أُخرجوا من ديارهم .
والثاني : أخرجوهم بسبب قولهم : «رَبُّنَا اللَّه » . وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم{[31328]} .
قوله : { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع{[31329]} ، وهذا مما يُجمع العرب على نصبه ، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر . فلو توجه العامل جاز فيه لغتان : النصب وهو لغة الحجاز ، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل{[31330]} نحو ما فيها أحد إلا حمار{[31331]} . وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل{[31332]} ، لأنك لو قلت : الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح {[31333]} .
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من «حَقّ » .
قال الزمخشري : أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ، ومثله { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله }{[31334]} {[31335]} [ المائدة : 59 ] انتهى .
وممن جعله في موضع جر بدلاً مما قبله الزجاج{[31336]} . إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال : ما أجازاه من البدل لا يجوز ، لأن البدل لا يجوز إلا{[31337]} حيث سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي ( نحو : ما قام أحد إلا زيد ، ولا يضرب أحد إلا زيد ، وهل يضرب أحد إلا زيد{[31338]} ) وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل ( لا يقال : قام القوم إلا زيد ، على البدل ، ولا يضرب القوم إلا زيد ، على البدل ) لأن{[31339]} البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت : قام إلا زيد ، و{[31340]}ليضرب إلا عمرو لم يجز . ولو قلت في غير القرآن : أخرجِ الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاماً ، هذا إذا تخيل أن يكون { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } في موضع جر بدلاً من «غَيْر » المضاف إلى «حَقّ » ، وأما إذا كان بدلاً من «حق » كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد ، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي{[31341]} غيراً فيصير التركيب : بغير إلا أن يقولوا ؛ وهذا لا يصح ، ولو قدرنا ( إلا ){[31342]} بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد ، فنجعله بدلاً لم يصح ، لأنه يصير التركيب : بغير قولهم ربنا الله ، فيكون قد أضيف غير إلى غير ، وهي هي ، فيصير بغير غير ، ويصح في{[31343]} ما مررت بأحد إلا زيد ، أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين{[31344]} مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل ( إلا ) بمعنى سوى ، ويصح على الصفة ، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل{[31345]} .
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله } تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين{[31346]} .
وقرأ نافع وابن كثير «لَهُدِمَتْ » بالتخفيف ، والباقون بتثقيل الدال{[31347]} على التكثير ، لأن المواضع كثيرة متعددة ، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضا{[31348]} .
قوله : { صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } العامة على «صَلَوات » بفتح الصاد واللام جمع صلاة{[31349]} وقرأ جعفر بن محمد «وصُلُوَات » بضمّهما{[31350]} . وروي عنه أيضاً بكسر الصاد وسكون اللام{[31351]} . وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام{[31352]} . وأبو العالية بفتح الصاد وسكون اللام{[31353]} ، والجحدري أيضاً «وصُلُوت » بضمهما{[31354]} وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صَلْب وصُلُوب{[31355]} والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها{[31356]} . والجحدري أيضاً وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفاً فقرءوا «صُلُوثا »{[31357]} ، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضاً{[31358]} ، وروي عن الجحدري أيضاً «صُلْوَاث » بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة{[31359]} . وقرأ عكرمة «صِلْوِيثا » بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف{[31360]} وحكى ابن مجاهد{[31361]} أنه قرئ «صِلْوَاث » بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة{[31362]} . وقرأ الجحدري «وصُلُوْب » مثل كعوب بالباء الموحدة{[31363]} وجمع صليب وفُعُول جمع فَعِيل شاذ نحو ظَرِيف وظُرُوف وأَسينَة وأُسُون {[31364]} .
وروي عن أبي عمرو{[31365]} «صَلَوَاتُ » كالعامة إلا أنه لم ينون ، منعه الصرف للعلمية والعجمة ، كأنه جعله اسم موضع{[31366]} فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات{[31367]} المعهودة . ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات ، أو تضمن «هُدِّمَتْ » معنى عطلت ، فيكون قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه ، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف{[31368]} . والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل ملة{[31369]} بحسبها . وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه قال : وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ، وقيل : هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا انتهى{[31370]} .
وأما غيرها من القراءات ، فقيل : هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها اللغات{[31371]} والصوامع : جمع صومعة ، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى من قولهم رجل أصمع ، وهو الحديد القول ، ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة{[31372]} ، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون . وقال قتادة : للصابئين{[31373]} . والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج{[31374]} .
وقال أبو العالية هي كنائس اليهود . {[31375]} وقال الزجاج : الصوامع للنصارى ، وهي التي بنوها في الصحارى ، والبيع لهم أيضاً وهي التي بنوها في البلد ، والصلوات لليهود {[31376]} .
وقال الزجاج : وهي بالعبرانية صَلُوْثا{[31377]} . والمساجد للمسلمين . وهذا هو الأشهر .
وقال أبو العالية : الصلوات للصابئين{[31378]} . وقال الحسن : إنها بأسرها أسماء المساجد ، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع ، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه ، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد {[31379]} .
معنى { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال : ولولا دفع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه{[31380]} من مواضع العبادة {[31381]} .
وقال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن{[31382]} القاعدين عن الجهاد{[31383]} .
وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس : يدفع الله بالمحسن{[31384]} عن المسيء ، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي{[31385]} ، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق ، وبالذي يحج عن الذي لا يحج{[31386]} .
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بيْتِهِ وَمِنْ جِيْرَانِهِ » ثم تلا هذه الآية{[31387]} . وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة{[31388]} . وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود ، وعن النفوس بالقصاص{[31389]} . فإن قيل : لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين ؟ فالجواب أما على قول الحسن : فالمراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها . وأما على قول غيره فقال الزجاج : المعنى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يتعبد فيه ، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد{[31390]} . فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ{[31391]} . فإن قيل : كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين ؟ فالجواب من وجوه :
الأول : المراد من هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان ، إذا قابله بالكفر دون الشكر{[31392]} .
الثاني : ما تقدم من باب حذف المضاف كقوله : «واسْأَلِ القَرْيَة »{[31393]} أي أهلها ، فالمراد مكان الصلاة .
الثالث : لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم : متقلداً سيفاً ورمحاً . وإن كان الرمح لا يتقلد{[31394]} . فإن قيل : لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد ؟
فالجواب لأنها أقدم في الوجود . وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله : { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات }{[31395]} [ فاطر : 32 ] . قال عليه السلام{[31396]} : «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُون »{[31397]} .
قوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله } يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير من «فِيهَا » عليها{[31398]} . قال الكلبي ومقاتل : يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كلها{[31399]} . ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في «فِيهَا » بها{[31400]} تشريفاً لها{[31401]} . ثم قال { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } أي : ينصر دينه ونبيه{[31402]} .
وقيل : يتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله . { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ }{[31403]} أي : على هذه النصرة التي وعدها{[31404]} المؤمنين . «عَزِيْزٌ » وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده {[31405]} .