فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله : { الذين أُخْرِجُوا مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ } ويجوز أن يكون بدلاً من الذين يقاتلون ، أو في محل نصب على المدح ، أو محل رفع بإضمار مبتدأ ، والمراد بالديار : مكة { إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا الله } قال سيبويه : هو استثناء منقطع ، أي لكن لقولهم : ربنا الله أي أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم : ربنا الله . وقال الفراء والزجاج : هو استثناء متصل ، والتقدير : الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا : ربنا الله ، فيكون مثل قوله سبحانه : { هل تنقمون منا إلا آمنا } [ المائدة : 59 ] وقول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

{ وَلَوْلاَ دفع الله الناس } قرأ نافع : «ولولا دفاع » وقرأ الباقون : { ولولا دفع } والمعنى : لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك ، وذهبت مواضع العبادة من الأرض ، ومعنى { لَهُدمَتْ } : لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل . فالصوامع : هي صوامع الرهبان . وقيل : صوامع الصابئين ، والبيع : جمع بيعة ، وهي كنيسة النصارى ، والصلوات : هي كنائس اليهود ، واسمها بالعبرانية صلوثا بالمثلثة فعربت ، والمساجد هي مساجد المسلمين ، وقيل : المعنى : لولا هذا الدفع لهدّمت في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد المساجد . قال ابن عطية : هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية . وقيل : المعنى : ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة ؛ وقيل : لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار ، وقيل : غير ذلك . والصوامع : جمع صومعة ، وهي بناء مرتفع ، يقال : صمع الثريدة : إذا رفع رأسها ، ورجل أصمع القلب ، أي حادّ الفطنة ، والأصمع من الرجال : الحديد القول . وقيل : الصغير الأذن . ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام . وقد ذكر ابن عطية في { صلوات } تسع قراءات ، ووجه تقديم مواضع عبادات أهل الملل على موضع عبادة المسلمين كونها أقدم بناء وأسبق وجوداً . والظاهر من الهدم المذكور معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره . وقيل : المراد به المعنى المجازي ، وهو تعطلها من العبادة ، وقرئ : { لهدّمت } بالتشديد ، وانتصاب { كثيراً } في قوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } على أنه صفة لمصدر محذوف أي : ذكراً كثيراً ، أو وقتاً كثيراً ، والجملة صفة للمساجد ، وقيل : لجميع المذكورات . { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } اللام هي جواب لقسم محذوف ، أي والله لينصر الله من ينصره ، والمراد بمن ينصر الله : من ينصر دينه وأولياءه . والقويّ : القادر على الشيء ، والعزيز : الجليل الشريف قاله الزجاج . وقيل : الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع .

/خ41