البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

الهدم : معروف وهو نقض ما بُني .

قال الشاعر :

وكل بيت وإن طالت إقامته *** على دعائمه لا بدّ مهدوم

الصومعة : موضع العبادة وزنها فعولة ، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى ، والأصمع من الرجال الحديد القول ، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعبّاد الصابئين ، قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين .

البيع : كنائس النصارى واحدها بيعة .

وقيل : كنائس اليهود .

وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع { يدافع } ولولا دفاع الله .

وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع { ولولا دفع } وقرأ الكوفيون وابن عامر { يدافع } { ولولا دفع } وفاعل هنا بمعنى المجرد نحو جاوزت وجزت .

وقال الأخفش : دفع أكثر من دافع .

وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسب حساباً .

وقال ابن عطية : يحسن { يدافع } لأنه قد عنّ للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ، ودفعه مدافعة عنهم انتهى .

يعني فيكون فاعل لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى .

وقال الزمخشري : ومن قرأ { يدافع } فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ انتهى .

ولم يذكر تعالى ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن الله لهم في القتال .

{ الذين أخرجوا } في موضع جر نعت للذين ، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم .

و { إلا أن يقولوا } استثناء منقطع فإن { يقولوا } في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه ، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت { الذين أخرجوا من ديارهم } { إلا أن يقولوا ربنا الله } لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلاّ حمار ، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول : ما في الدار إلاّ حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه .

وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتّبعه الزمخشري فقال { أن يقولوا } في محل الجر على الإبدال من { حق } أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير ، ومثله { هل تنقمون منا إلاّ أن آمنا } انتهى .

وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلاّ إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي ، نحو : ما قام أحد إلاّ زيد ، ولا يضرب أحد إلاّ زيد ، وهل يضرب أحد إلاّ زيد ، وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل : لا يقال قام القوم إلاّ زيد على البدل ، ولا يضرب القوم إلاّ زيد على البدل ، لأن البدل لا يكون إلاّ حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت قام إلاّ زيد ، وليضرب إلاّ عمر ولم يجز .

ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلاّ بأن يقولوا لا إله إلاّ الله لم يكن كلاماً هذا إذا تخيل أن يكون { إلاّ أن يقولوا } في موضع جر بدلاً من غير المضاف إلى { حق } وإما أن يكون بدلاً من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب بغير { إلاّ أن يقولوا } وهذا لا يصح ، ولو قدرت { إلاّ } بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلاّ زيد فتجعله بدلاً لم يصح ، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم { ربنا الله } فتكون قد أضفت غيراً إلى غير وهي هي فصار بغير غير ، ويصح في ما مررت بأحد إلاّ زيد أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل إلاّ بمعنى سوى ، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول : مررت بالقوم إلاّ زيد على الصفة لا على البدل .

{ ولولا دفع الله الناس } الآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل ، وأنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات ، وكأنه لما قال { أذن للذين يقاتلون } قيل : فليقاتل المؤمنون ، فلولا القتال لتغلب على الحق في كل أمة وانظر إلى مجيء قوله { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } لفسدت الأرض إثر قتال طالوت لجالوت ، وقتل داود جالوت .

وأخبر تعالى أنه لولا ذلك الدفع فسدت الأرض فكذلك هنا .

وقال عليّ بن أبي طالب : ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم ، وأخذ الزمخشري قول عليّ وحسنه وذيل عليه فقال : دفع الله بعض الناس ببعض إظهاره وتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة ، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود صلوات ، ولا للمسلمين مساجد ، ولغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا متعبدات الفريقين انتهى .

وقال مجاهد : { ولولا دفع الله } ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا .

وقال قوم { دفع } ظلم الظلمة بعدل الولاة .

وقالت فرقة { دفع } العذاب بدعاء الأخيار .

وقال قطرب : بالقصاص عن النفوس .

وقيل : بالنبيين عن المؤمنين .

وقال الحسن : لولا أمان الإسلام لخربت متعبدات أهل الذمة ، ومعنى الدفع بالقتال أليق بالآية وأمكن في دفع الفساد .

وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني { فهدمت } مخففاً وباقي السبعة وجماعة مشددة لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع فتكرر الهدم لتكثيرها .

وقرأ الجمهور { وصلوات } جمع صلاة .

وقرأ جعفر بن محمد { وصُلوات } بضم الصاد واللام .

وحكى عنه ابن خالويه { صلوات } بسكون اللام وكسر الصاد ، وحكيت عن الجحدري والجحدري { صلوات } بضم الصاد وفتح اللام ، وحكيت عن الكلبي وأبي العالية بفتح الصاد وسكون اللام { صلوات } والحجاج بن يوسف والجحدري أيضاً وصلوات وهي مساجد النصارى بضمتين من غير ألف ومجاهد كذلك إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها والضحاك والكلبي وصلوث بضمتين من غير ألف وبثاء منقوطة بثلاث ، وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلاّ أنه بعد الثاء ألف .

وقرأ عكرمة : وصلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف ، والجحدري أيضاً { صَلوات } بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط .

وحكى ابن مجاهد أنه قرىء كذلك إلا أنه بكسر الصاد .

وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بالباء بواحدة على وزن كعوب جمع صليب كظريف وظروف ، وأسينة وأسون وهو جمع شاذ أعني جمع فعيل على فعول فهذه ثلاثة عشرة قراءة والتي بالثاء المثلثة النقط .

قيل : هي مساجد اليهود هي بالسريانية مما دخل في كلام العرب .

وقيل : عبرانية وينبغي أن تكون قراءة الجمهور يراد بها الصلوات المعهودة في الملل ، وأما غيرها مما تلاعبت فيه العرب بتحريف وتغيير فينظر ما مدلوله في اللسان الذي نقل منه فيفسر به .

وروى هارون عن أبي عمرو { صلوات } كقراءة الجماعة إلاّ أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله ، وكأنه علم فمنعه الصرف للعلمية والعجمة وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب معتقدات الأمم فالصوامع للرهبان .

وقيل : للصابئين ، والبيع للنصارى ، والصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين وقاله خصيف .

قال ابن عطية : والأظهر أنه قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات ، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلاّ البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لهم كتاب على قديم الدهر ، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك لأنّ هؤلاء ليس لهم ما يَوجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلاّ عند أهل الشرائع انتهى .

والظاهر عود الضمير في قوله { يذكر فيها } على المواضع كلها جميعها وقاله الكلبي ومقاتل ، فيكون { يذكر } صفة للمساجد وإذا حملنا الصلوات على الأفعال التي يصليها أهل الشرائع كان ذلك إما على حذف مضاف أي ومواضع صلوات وإما على تضمين { لهدمت } معنى عطلت فصار التعطيل قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال ، وتأخير المساجد إما لأجل قدم تلك وحدوث هذه ، وإما لانتقال من شريف إلى أشرف .

وأقسم تعالى على أنه تنصر من ينصر أي ينصر دينه وأولياءه ، ونصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً وفي ذلك حض على القتال .

ثم أخبر تعالى أنه قوي على نصرهم { عزيز } لا يغالب .