قوله تعالى : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ، اختلفوا في نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاماً لجميع المؤمنين . فقال قوم : نزلت في عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي سلول ، وذلك أنهما اختصما ، فقال عبادة : إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، وولاية اليهود ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله ، فقال عبد الله : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأني أخاف الدوائر ، ولابد لي منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا الحباب ، ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه " . قال : إذا أقبل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . قال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتدت على طائفة من الناس ، وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار ، فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي ، وآخذ منه أماناً ، إني أخاف أن يدال علينا اليهود ، وقال رجل آخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشام ، وآخذ منه أماناً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهما . وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول ، وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا ؟ فجعل أصبعه على حلقه أنه الذبح ، أي : يقتلكم . فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { بعضهم أولياء بعض } ، في العون والنصرة ، ويدهم واحدة على المسلمين .
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، الذين هم أعداء الإسلام وأهله ، قاتلهم الله ، ثم أخبر{[9948]} أن بعضهم أولياء بعض ، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] }{[9949]}
قال{[9950]} ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب ، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق - حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن سِمَاك بن حَرْب ، عن عِياض : أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر [ رضي الله عنه ]{[9951]} وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارئ لنا كتابًا في المسجد جاء من الشام ؟ فقال : إنه لا يستطيع [ أن يدخل المسجد ]{[9952]} فقال عمر : أجُنُبٌ هو ؟ قال : لا بل نصراني . قال : فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال : أخرجوه ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] }{[9953]}
ثم قال الحسن بن محمد بن الصباح : حدثنا عثمان بن عمر ، أنبأنا ابن عَوْن ، عن محمد بن سِيرِين قال : قال عبد الله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا ، وهو لا يشعر . قال : فظنناه يريد هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ] }{[9954]} الآية . وحدثنا{[9955]} أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : كُلْ ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
{ يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في المعنىّ بهذه الاَية وإن كان مأمورا بذلك جميع المؤمنين ، فقال بعضهم : عنى بذلك : عبُادة بن الصامت وعبد الله بن أُبَىّ ابن سَلُول في براءة عبادة من حلف اليهود ، وفي تمسك عبد الله بن أبيّ ابن سلول بحلف اليهود بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسك بحلفهم أنه منهم في براءته من الله ورسوله كبراءتهم منهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد ، قال : جاء عبادة ابن الصامت من بني الحرث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية مواليّ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبيّ : «يا أبا الحُبابِ مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وِلايَةِ يَهُودَ على عُبادَةَ بنِ الصّامِتِ فَهُوَ إلَيكَ دُونَهُ » . قال : قد قبلت . فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ . . . إلى قوله : فَتَرى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : ثني عثمان بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك ابن صيف : غرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال ، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا . فقال عبادة : يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبيّ : لكني لا أبرأ من ولاء يهود ، إني رجل لا بدّ لي منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا حُبابِ أرأيْتَ الّذِي نَفَسْتَ بِهِ مِنْ وَلاءِ يَهُودَ على عُبادَةَ ، فَهُوَ لَكَ دونَهُ » . قال : إذن أقبل . فأنزل الله تعالى ذكره : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلياءُ بَعْضٍ . . . إلى أن بلغ إلى قوله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : ثني والدي إسحاق بن يسار ، عن عبادة ابن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : لما حاربت بنو قَينُقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ ، وقام دونهم . ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج من له حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيّ ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الاَيات في المائدة : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضً . . . الاَية .
وقال آخرون : بل عُنى بذلك قوم من المؤمنين كانوا هموا حين نالهم بأُحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عِصَما ، فنهاهم الله عن ذلك ، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم فهو منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَولّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ قال : لما كانت وقعة أُحد ، اشتدّ على طائفة من الناس وتخوّفوا أن يُدال عليهم الكفار ، فقال رجل لصاحبه : أما أنا فألحقُ بدَهْلَكَ اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهوّد معه ، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود . وقال الاَخر : أما أنا فألحق بفلان النصرانيّ ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأنتصر معه . فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ إنّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالَمِينَ .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر في إعلامه بني قريظة إذ رضوا بحكم سعد أنه الذبح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر من الأوس ، وهو من بني عمرو بن عوف ، فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد ، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه الذبح الذبح .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين ، فإنّه منهم في التحزّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، وأن الله ورسوله منه بريئان . وقد يجوز أن تكون الاَية نزلت في شأن عُبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ ابن سلول وحلفائهما من اليهود ، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لُبابة بسبب فعله في بني قريظة ، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدّيّ أن أحدهما همّ باللحاق بدهلك اليهودي والاَخر بنصراني بالشأم ، ولم يصحّ من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجة فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل . فإذ كان ذلك كذلك فالصواب أن يُحْكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمّ ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه غير أنه لا شك أن الاَية نزلت في منافق كان يوالي يهودَ أو نصارى ، خوفا على نفسه من دوائر الدهر ، لأن الاَية التي بعد هذه تدل على ذلك ، وذلك قوله : فَتَرى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أنْ تُصِيبَنا دَائِرَةٌ . . . الاَية .
وأما قوله : بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ فإنه عنى بذلك أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين ، ويد واحدة على جميعهم ، وأن النصارى كذلك بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم ، معرّفا بذلك عباده المؤمنين أن من كان لهم أو لبعضهم وليا فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين ، كما اليهود والنصارى لهم حرب ، فقال تعالى ذكره للمؤمنين : فكونوا أنتم أيضا بعضُكم أولياءُ بعض ، ولليهودي والنصراني حربا كما هم لكم حرب ، وبعضهم لبعض أولياء لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب ومنهم البراءة ، وأبان قطع ولايتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم ، يقول : فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متولّ أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه ، وصار حكمه حكمه ، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم لنصارى بني تَغْلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم بأحكام نصارى بني إسرائيل ، لموالاتهم إياهم ورضاهم بملتهم ونصرتهم لهم عليها ، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقا . وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول ، من أن كلّ من كان يدين بدين فله حكم أهل ذلك الدين كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده ، إلا أن يكون مسلما من أهل ديننا انتقل إلى ملة غيرها ، فإنه لا يقرّ على ما دان به فانتقل إليه ، ولكن يقتل لردّته عن الإسلام ومفارقته دين الحقّ ، إلا أن يرجع قبل القتل إلى الدين الحقّ ، وفساد ما خالفه من قول من زعم أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم ، إلا أن يكون إسرائيليا أو منتقلاً إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان . فأما من دان بدينهم بعد نزول الفرقان ممن لم يكن منهم ممن خالف نسبه نسبهم وجنسه جنسهم ، فإنه حكمه لحكمهم مخالف . ذكر من قال بما قلنا من التأويل :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، قال : سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ، فقرأ : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ وْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ أنها في الذبائح ، من دخل في دين قوم فهو منهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كلوا من ذبائح بني تَغْلب ، وتزوّجوا من نسائهم ، فإن الله يقول كتابه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّه مِنْهُمْ ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن زائدة ، عن هشام ، قال : كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسا ، وكان يتلو هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هارون بن إبراهيم ، قال : سئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره من نصارى يتخذونها بيعة ، قال : فتلا هذه الاَية : لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ لا يَهْدِى القَوْمَ الظّالِمِينَ .
يعني تعالى ذكره بذلك ، أن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فوالَى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين ، وكان لهم ظهيرا ونصيرا ، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حرب . وقد بينا معنى الظلم في غير هذا الموضع وأنه وضع الشيء في غير موضعه بما أغنى إعادته .
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة . وحكم هذه الآية باق . وكل من اكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى : { فإنه منهم } ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي ، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً ورهنه درعه ، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية ، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم : سببها «أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفاً لهم ، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله ، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله ، وقال عبد الله بن أبي : أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود ، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر{[4578]} .
وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب درعه ، وقال : يا محمد أحسن في مواليَّ ، فقال له رسول الله : أرسل الدرع من يدك ، فقال لا والله حتى تهبهم لي لأنهم ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسراً أفأدعك تحصدهم في غداة واحدة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد وهبتهم لك » ، ونزلت الآية في ذلك .
وقال السدي : سبب هذه الآية أنه لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم وقال بعضهم لبعض نأخذ من اليهود عصماً ليعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش وسائر العرب فنزلت الآية في ذلك{[4579]} .
وقال عكرمة : سبب الآية أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم على حكم سعد بن معاذ{[4580]} .
قال القاضي أبو محمد : وكل هذه الأقوال محتمل ، وأوقات هذه النوازل مختلفة ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «لا تتخذوا اليهود والنصارى أرباباً بعضهم » ، وقوله تعالى : { بعضهم أولياء بعض } جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين ، وقوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكل من اتصف بهذه الصفة من موالاتهم ، ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه ، وبهذه الآية جوز ابن عباس وغيره ذبائح النصارى من العرب وقال : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } فقال من دخل في دين قوم فهو منهم{[4581]} ، وسئل ابن سيرين رحمه الله عن رجل أراد بيع داره من نصارى يتخذونها كنيسة فتلا هذه الآية ، وقوله تعالى : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله ، فإن الظلم لا هدى فيه ، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه .