قوله تعالى : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه } ، وفيه إضمار تقديره : فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف عليه السلام { قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } أي : الشدة والجوع ، { وجئنا ببضاعة مزجاة } أي : قليلة رديئة كاسدة ، لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع فيها . وأصل الإزجاء : السوق والدفع . وقيل : للبضاعة مزجاة لأنها غير نافقة ، وإنما تجوز على دفع من آخذها . واختلفوا فيها ، فقال ابن عباس : كانت دراهم رديئة زيوفا . وقيل : كانت خلق الغرائر والحبال . وقيل : كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط . وقال الكلبي ومقاتل : كانت الحبة الخضراء . وقيل : كانت من سويق المقل . وقيل : كانت الأدم والنعال .
{ فأوف لنا الكيل } أي : أعطنا ما كنت تعطينا قبل بالثمن الجيد الوافي ، { وتصدق علينا } أي : تفضل علينا بما بين الثمنين الجيد والرديء ولا تنقصنا . هذا قول أكثر المفسرين . وقال ابن جريج والضحاك : وتصدق علينا برد أخينا إلينا ، { إن الله يجزي } يثيب { المتصدقين } . وقال الضحاك : لم يقولوا إن الله يجزيك ، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن . وسئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبينا عليه الصلاة والسلام ؟ فقال سفيان :ألم تسمع قوله تعالى : { وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين } ، يريد أن الصدقة كانت حلالا لهم . وروي أن الحسن سمع رجلا يقول : اللهم تصدق علي ، فقال : إن الله لا يتصدق وإنما يتصدق من يبغي الثواب ، قل : اللهم أعطني أو تفضل علي .
وقوله : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ } تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا بلد{[15273]} مصر ، ودخلوا على يوسف ، { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام ، { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي : ومعنا ثمن الطعام الذي تمتاره ، وهو ثمن قليل . قاله مجاهد ، والحسن ، وغير واحد .
وقال ابن عباس : الرديء{[15274]} لا يَنفُق ، مثل خَلَق الغِرارة ، والحبل ، والشيء ، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان . وكذا قال قتادة ، والُّسدي .
وقال سعيد بن جبير [ وعكرمة ]{[15275]} هي الدراهم الفُسُول .
وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء .
وقال أبو صالح : جاءوا بحَبِّ البُطْم الأخضر والصنوبر .
وأصل الإزجاء : الدفع لضعف الشيء ، كما قال حاتم الطائي :
ليَبْك عَلى مِلْحَانَ ضَيفٌ مُدَفَّعٌ *** وَأرمَلَةٌ تُزْجي مَعَ الليل أرمَلا{[15276]} وقال أعشى بني ثعلبة :
الوَاهبُ المائةِ الهجَان وعَبدِها *** عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَها أطْفَالَها{[15277]} وقوله إخبارا عنهم : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } أي : أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك . وقرأ ابن مسعود : " فأوقرْ ركابنا وتصدق علينا " .
وقال ابن جريج : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } برَدِّ أخينا إلينا .
وقال سعيد بن جبير والسدي : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة ، وتجوز فيها .
وسئل سفيان بن عُيُيْنَة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع قوله : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } رواه ابن جرير عن الحارث ، عن القاسم ، عنه {[15278]}-{[15279]} .
وقال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان بن الأسود : سمعت مجاهدا وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي ؟ فقال : نعم ، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَأَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَآ إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ } .
وفي الكلام متروك قد استغني بذكر ما ظهر عما حذف ، وذلك : فخرجوا راجعين إلى مصر حتى صاروا إليها ، فدخلوا على يوسف فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أيّها العَزِيزُ مَسّنا وأهْلَنا الضّرّ أي الشدّة من الجدب والقحط ، وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وخرجوا إلى مصر راجعين إليها ببضاعة مُزْجاة : أي قليلة ، لا تبلغ ما كانوا يتبايعون به ، إلاّ أن يُتَجاوز لهم فيها ، وقد رأوا ما نزل بأبيهم ، وتتابع البلاء عليه في ولده وبصره ، حتى قدموا على يوسف . فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أيّها العَزِيزُ رجاء أن يرحمهم في شأن أخيهم ، مَسّنا وأهْلَنا الضّرّ . وعَنَى بقوله : وَجِئْنا ببِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ بدراهم أو ثمن لا يجوز في ثمن الطعام إلاّ لمن يتجاوز فيها . وأصل الإزجاء : السّوْق بالدفع ، كما قال النابغة الذبياني :
وَهَبّتِ الرّيحُ مِنْ تِلْقاءِ ذي أُرُلٍ *** تُزْجِي معَ اللّيلِ مِن صُرّادها صِرَما
يعني تسوق وتدفع ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
الوَاهِبُ المِئَةَ الهِجانَ وعَبْدَها *** عُوذًا تُزَجّي خَلْفَها أطْفالَهَا
ليَبْك على مِلْحانَ ضَيْفٌ مُدَفّعٌ *** وأرْمَلَةٌ تُزْجِي معَ اللّيلِ أرْمَلا
يعني أنها تسوقه بين يديها على ضعف منه عن المشي وعجز ولذلك قيل : بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ لأنها غير نافقة ، وإنما تجوز تجويزا على نفع من آخذيها . وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك ، وإن كانت معاني بيانهم متقاربة . ذكر أقوال أهل التأويل في ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : ردية زيوف لا تنفَق حتى يوضع منها .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : الردية التي لا تنفَق حتى يُوضَع منها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : خَلَقٍ ، الغِرارة والحبل والشيء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان عن ابن أبي مليكة ، قال : سمعت ابن عباس ، وسئل عن قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : رثّة المتاع : الحبل والغِرارة والشيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : البضاعة : الدراهم ، والمزجاة : غير طائل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن ابن أبي زياد ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، قال : كاسدة غير طائل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير وعكرمة : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال سعيد : ناقصة . وقال عكرمة : دراهم فُسُول .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وعكرمة : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال أحدهما : ناقصة . وقال الاَخر : ردية .
وبه قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : كان سمنا وصوفا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن يزيد بن أبي زياد قال : سأل رجل عبد الله بن الحارث وأنا عنده ، عن قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : قليلة ، متاع الأعراب : الصوف والسمن .
حدثنا إسحاق بن زياد القطان أبو يعقوب البصري ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق البلخيّ ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن مروان بن عمرو العذريّ ، عن أبي إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : الصنوبر والحبة الخضراء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن يزيد بن الوليد ، عن إبراهيم ، في قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : قليلة ، ألا تسمع إلى قوله : «فأوقر ركابنا » ، وهم يقرؤون كذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، أنه قال : ما أراها إلاّ القليلة ، لأنها في مصحف عبد الله : «وأوقر ركابنا » ، يعني قوله : مزجاة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن القعقاع بن يزيد ، عن إبراهيم ، قال : قليلة ، ألم تسمع إلى قوله : «وأوقر ركابنا » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي بكر الهذلي ، عن سعيد بن جبير والحسن : بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال سعيد : الردية . وقال الحسن : القليلة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن يزيد ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : متاع الأعراب سمن وصوف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية ، قال : دراهم ليست بطائل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مُزْجاةٍ قال : قليلة .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مُزْجاةٍ قال : قليلة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : شيء من صوف ، وشيء من سمن .
قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، قال : قليلة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عمن حدثه ، عن مجاهد : مُزْجاةٍ قال : قليلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن عكرمة ، قال : ناقصة . وقال سعيد بن جبير : فُسول .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير : وَجِئْنا ببِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : ردية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، ظن الضحاك ، قال : كاسدة لا تنفَق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كاسدة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كاسدة غير طائل .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ يقول : كاسدة غير نافقة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : الناقصة ، وقال عكرمة : فيها تجوّز .
قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الدراهم الردية التي لا تجوز إلاّ بنقصان .
قال : حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الدراهم الرّذَال التي لا تجوز إلاّ بنقصان .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : دراهم فيها جواز .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ : أي يسيرة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ قال : المزجاة : القليلة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَجئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ : أي قليلة لا تبلغ ما كنا نشتري به منك ، إلاّ أن تتجاوز لنا فيها .
وقوله : فَأَوْفِ لَنا الكَيْلَ بها ، وأعطنا بها ما كنت تعطينا قبلُ بالثمن الجيد والدراهم الجائزة الوافية التي لا تردّ . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَأَوْفِ لَنا الكَيْلَ : أي أعطنا ما كنت تعطينا قبل ، فإن بضاعتنا مزجاة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : فَأَوْفِ لَنا الكَيْلَ قال : كما كنت تعطينا بالدراهم الجياد .
وقوله : وَتَصَدّقْ عَلَيْنا يقول تعالى ذكره : قالوا : وتفضل علينا بما بين سعر الجياد والردية ، فلا تنقصنا من سعر طعامك لرديّ بضاعتنا . إنّ اللّهَ يَجْزِي المُتَصَدّقّينَ يقول : إن الله يثيب المتفضلين على أهل الحاجة بأموالهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : وَتَصَدّقْ عَلَيْنا قال : تفضل بما بين الجياد والردية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير : فَأَوْفِ لَنا الكَيْلَ وَتَصَدّق عَلَيْنا لا تنقصنا من السعر من أجل ردّي دراهمنا .
واختلفوا في الصدقة ، هل كانت حلالاً للأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو كانت حراما ؟ فقال بعضهم : لم تكن حلالاً لأحد من الأنبياء عليهم السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير ، قال : ما سأل نبيّ قط الصدقة ، ( و ) لكنهم قالوا جِئْنا بِبضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنا الكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنا لا تنقصنا من السعر .
حدثني به الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : يحكى عن سفيان بن عيينة أنه سئل : هل حرّمت الصدقة على أحد الأنبياء قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع قوله : فَأَوْف لَنا الكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنا إنّ اللّهَ يَجْزِي المُتَصَدّقِينَ .
قال الحارث : قال القاسم : يذهب ابن عيينة إلى أنهم لم يقولوا ذلك إلاّ والصدقة لهم حلال ، وهم أنبياء ، فإن الصدقة إنما حرمت على محمد صلى الله عليه وسلم ، لا عليهم .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : وَتَصَدّقْ عَلَيْنا وتصدّق علينا بردّ أخينا إلينا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَتَصَدّقْ عَلَيْنا قال : ردّ إلينا أخانا .
وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن جريج ، وإن كان قولاً له وجه ، فليس بالقول المختار في تأويل قوله : وَتَصَدّقْ عَلَيْنا لأن الصدقة في المتعارف : إنما هي إعطاء الرجل ذا الحاجة بعض أملاكه ابتغاء ثواب الله عليه ، وإن كان كل معروف صدقة ، فتوجيه تأويل كلام الله إلى الأغلب من معناه في كلام من نزل القرآن بلسانه أولى وأحرى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان بن الأسود ، قال : سمعت مجاهدا ، وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهمّ تصدّق عليّ ؟ فقال : نعم ، إنما الصدقة لمن يبغي الثواب .
{ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز } بعدما رجعوا إلى مصر رجعة ثانية . { مسّنا وأهلنا الضر } شدة الجوع . { وجئنا ببضاعة مزجاة } رديئة أو قليلة ترد وتدفع رغبة عنها ، من أزجيته إذا دفعته ومنه تزجية الزمان . قيل كانت دراهم زيوفا وقيل صوفا وسمنا . وقيل الصنوبر والحبة الخضراء . وقيل الأقط وسويق المقل . { فأوف لنا الكيل } فأتمم لنا الكيل . { وتصدّق علينا } برد أخينا أو بالمسامحة وقبول المزجاة ، أو بالزيادة على ما يساويها . واختلف في أن حرمة الصدقة تعم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو تختص بنبينا صلى الله عليه وسلم . { إن الله يجزي المتصدقين } أحسن الجزاء والتصدق التفضل مطلقا ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في القصر " هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " لكنه اختص عرفا بما يبتغي به ثواب من الله تعالى .
وقوله تعالى : { فلما دخلوا عليه } الآية ، في هذا الموضع اختصار محذوفات يعطيها الظاهر ، وهي : أنهم نفذوا من الشام إلى مصر ووصلوها والضمير في { عليه } عائد على يوسف ، و { الضر } أرادوا به المسغبة التي كانوا بسبيلها وأمر أخيهم الذي أهم أباهم وغم جميعهم ، و «البضاعة » القطعة من المال يقصد بها شراء شيء ، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح ، وال { مزجاة } معناها المدفوعة المتحيل لها ، ومنه إزجاء السحاب ، ومنه إزجاء الإبل كما قال الشاعر :
على زواحف تزجى مخها رير{[6802]}*** وكما قال النابغة : [ البسيط ]
وهبت الريح من تلقاء ذي أزل*** تزجى مع الليل من صرّادها صرما{[6803]}
الواهب المائة الهجان وعبدها*** عوذاً تزجي خلفها أطفالها{[6804]}
بحاجة غير مزجاة من الحاج{[6805]}*** وقال حاتم :
ليبكِ على ملحان ضيف مدفع*** وأرملة تزجي مع الليل أرملا{[6806]}
فجملة هذا أن من يسوق شيئاً ويتلطف في تسييره فقد أزجاه فإذا كانت الدراهم مدفوعة نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها فهي مزجاة ، فقيل : كان ذلك لأنها كانت زيوفاً{[6807]} - قاله ابن عباس - وقال الحسن : كانت قليلة ، وقيل : كانت ناقصة - قاله ابن جبير - وقيل : كانت بضاعتهم عروضاً ، فلذلك قالوا هذا .
واختلف في تلك العروض : ما كانت ؟ فقيل : كانت السمن والصوف - قاله عبد الله بن الحارث - وقال علي بن أبي طالب : كانت قديد وحش - ذكره النقاش - وقال أبو صالح وزيد بن أسلم : كانت الصنوبر والحبة الخضراء .
قال القاضي أبو محمد : وهي الفستق{[6808]} .
وقيل : كانت المقل{[6809]} ، وقيل : كانت القطن ، وقيل : كانت الحبال والأعدال والأقتاب{[6810]} .
وحكى مكي أن مالكاً رحمه الله قال : المزجاة : الجائزة .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعرف لهذا وجهاً ، والمعنى يأباه . ويحتمل أن صحف على مالك وأن لفظه بالحاء غير منقوطة وبالراء{[6811]} . واستند مالك رحمه الله في أن الكيل على البائع إلى هذه الآية ، وذلك ظاهر منها وليس بنص .
وقولهم : { وتصدق علينا } معناه بما بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة ، قاله السدي وغيره . وقيل : كانت الصدقة غير محرمة على أولئك الأنبياء وإنما حرمت على محمد ، قاله سفيان بن عيينة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : «نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة »{[6812]} .
وقالت فرقة : كانت الصدقة عليهم محرمة ولكن قالوا هذا تجوزاً واستعطافاً منهم في المبايعة ، كما تقول لمن تساومه في سلعة : هبني من ثمنها كذا وخذ كذا ، فلم تقصد أن يهبك ، وإنما حسنت له الانفعال{[6813]} حتى يرجع معك إلى سومك ، وقال ابن جريج : إنما خصوا بقولهم { وتصدق علينا } أمر أخيهم بنيامين ، أي أوف لنا الكيل في المبايعة وتصدق علينا بصرف أخينا إلى أبيه .
وقولهم : { إن الله يجزي المتصدقين } قال النقاش : يقال : هو من المعاريض{[6814]} التي هي مندوحة عن الكذب ، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً على غير دينهم ، ولو قالوا : إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة ، كذبوا ، فقالوا له لفظاً يوهمه أنهم أرادوه وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل .
الفاء عاطفة على كلام مقدّر دل عليه المقام ، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسّس من يوسف عليه السلام ، فوصلوا مصر ، فدخلوا على يوسف ، { فلما دخلوا عليه } الخ . . . وقد تقدم آنفاً وجه دعائهم يوسف عليه السلام بوصف العزيز .
وأرادوا بمسّ الضر إصَابته . وقد تقدم إطلاق مسّ الضرّ على الإصابة عند قوله تعالى : { وإن يمسسك الله بضر } في سورة الأنعام ( 17 ) .
والبضاعة تقدمت آنفاً . والمزجاة : القليلة التي لا يرغب فيها فكأنّ صاحبها يُزجيها ، أي يدفعها بكفة ليقبلها المدفوعة إليه . والمراد بها مال قليل للامتيار ، ولذلك فرع عليه { فأوف لنا الكيل } . وطلبوا التصدّق منه تعريضاً بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكاً له كما تقدم .
وجملة { إن الله يجزي المتصدّقين } تعليل لاستدعائهم التصدّق عليهم .