قوله تعالى : { استكباراً في الأرض } نصب استكباراً على البدل من النفور ، { ومكر السيئ } يعني : العمل القبيح ، أضيف المكر إلى صفته ، قال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ حمزة : مكر السيء ساكنة الهمزة تخفيفاً ، وهي قراءة الأعمش ، { ولا يحيق المكر السيئ } أي : لا يحل ولا يحيط المكر السيء ، { إلا بأهله } فقتلوا يوم بدر ، وقال ابن عباس : عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك . والمعنى : وبال مكرهم راجع إليهم ، { فهل ينظرون } ينتظرون ، { إلا سنة الأولين } إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار .
" استكبارا " أي عتوا عن الإيمان " ومكر السيئ " أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء ، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم . وأنث " من إحدى الأمم " لتأنيث أمة . قاله الأخفش . وقرأ حمزة والأخفش " ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ " فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني . قال الزجاج : وهو لحن ، وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه . وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر ؛ لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها ، لأنها دخلت للفرق بين المعاني . وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا ، قال : إنما كان يقف عليه ، فغلط من أدى عنه ، قال : والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين . وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره :
إذا اعوججن قلت صاحِبْ قَوِّم{[13176]}
فاليوم أشربْ غير مُسْتَحْقِبٍ *** إثما من الله ولا وَاغِلِ{[13177]}
وهذا لاحجة فيه ؛ لأن سيبويه لم يجزه ، وإنما حكاه عن بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة ، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه . وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده :
بوصل الألف على الأمر ، ذكر جميعه النحاس . الزمخشري : وقرأ حمزة " ومكر السيئ " بسكون الهمزة ، وذلك لاستثقاله الحركات ، ولعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ " ولا يحيق " . وقرأ ابن مسعود " ومكرا سيئا " وقال المهدوي : ومن سكن الهمزة من قوله : " ومكر السيئ " فهو على تقدير الوقف عليه ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات ، كما قال :
قال القشيري : وقرأ حمزة " ومكر السيئ بسكون الهمزة ، وخطأه أقوام . وقال قوم : لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام ، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج ، وقد سبق الكلام في أمثال هذا ، وقلنا : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال : إنه لحن ، ولعل مراد من صار إلى الخطة أن غيره أفصح منه ، وإن كان هو فصيحا . " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " أي لا ينزل عاقبه الشرك إلا بمن أشرك . وقيل : هذا إشارة إلى قتلهم ببدر . وقال الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت *** ذراعاً بعد ما كانت تَحِيقُ
أي تنزل ، وهذا قول قطرب . وقال الكلبى : " يحيق " بمعنى يحيط . والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا أي أحاط به . وعن ابن عباس أن كعبا قال له : إني أجد في التوراة " من حفر لأخيه حفرة وقع فيها " ؟ فقال ابن عباس : فاني أوجدك في القرآن ذلك . قال : وأين ؟ قال : فاقرأ " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ومن أمثال العرب " من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا " وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول : " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " [ الفتح : 10 ] وقال تعالى : " إنما بغيكم على أنفسكم " [ يونس : 23 ] وقال بعض الحكماء :
يا أيها الظالمُ في فعله *** والظلم مردود على من ظَلَمْ
إلى متى أنت وحتى متى *** تُحْصِي المصائبَ وتَنسى النِّعَم
وفي الحديث ( المكر والخديعة في النار ) . فقوله : ( في النار ) يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار ؛ لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث : ( وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة ) . وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة ، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة .
قوله تعالى : " فهل ينظرون إلا سنة الأولين " أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين . " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " أي أجرى الله العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنة فيهم ، فهو يعذب بمثله من استحقه ، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره . والسنة الطريقة ، والجمع سنن . وقد مضى في " آل عمران " {[13178]} وأضافها إلى الله عز وجل . وقال في موضع آخر : " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا " {[13179]} فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين ؛ وهو كالأجل ، تارة يضاف إلى الله ، تارة إلى القوم ؛ قال الله تعالى : " فإن أجل الله لآت " {[13180]} [ العنكبوت : 5 ] وقال : " فإذا جاء أجلهم " . [ النحل : 61 ] .
ولما كانوا قد جبلوا على الضلال ، وكان النفور قد يكون لأمر محمود أو مباح ، علله بقوله : { استكباراً } أي طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم { في الأرض } أي التي من شأنها السفول والتواضع والخمول { ومكر السيىء } أي ولأجل مكرهم المكر الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره ، وهو إرادتهم لإيهان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله ، وقراءة عبد الله { ومكراً سيئاً } يدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته ، وقراءة حمزة بإسكان الهمزة بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر وإتقانه وإخفائه جهدهم { ولا } أي والحال أنه لا { يحيق } أي يحيط إحاطة لازمة ضارة { المكر السيىء } أي الذي هو عريق في السوء { إلا بأهله } وإن آذى غير أهله ، لكنه لا يحيط بذلك الغير ، وعن الزهري أنه قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول هذه الآية ، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله { إنما بغيكم على أنفسكم } ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله : { ومن نكث فإنما ينكث على نفسه } " .
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها ، قال مسبباً عن ذلك : { فهل ينظرون } أي ينتظرون ، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر ، ويمكن أن يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين مع العلم بأن عادته مستمرة ، لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم . ولما جعل استقبالهم لذلك انتظاراً منهم له ، وكان الاستفهام إنكاريا ، فكان بمعنى النفي قال : { إلا سنت الأولين } أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم .
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس ، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق ، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره ، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله ، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم : { فلن تجد } أي أصلاً في وقت من الأوقات { لسنت الله } أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها ، وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين { تبديلاً } أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلاً لها لأنه لا مكافئ له { ولن تجد لسنت الله } أي الذي لا أمر لأحد معه { تحويلاً * } أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه ، لأنه لا كفوء له ، وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب ، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤاً من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته .