قوله تعالى : { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } يعني : السمك ، { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } يعني : اللؤلؤ والمرجان ، { وترى الفلك مواخر فيه } جواري فيه . قال قتادة مقبلة ومدبرة ، وهو أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر ، تجريان بريح واحدة . وقال الحسن : مواخر أي : مملوءة . وقال الفراء والأخفش : مواخر شواق تشق الماء يجؤجؤها . قال مجاهد : تمخر السفن الرياح . وأصل المخر : الرفع والشق ، وفي الحديث " إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح " أي : لينظر من أين مجراها وهبوبها ، حتى لا برد عليه البول . وقال أبو عبيده : صوائح ، والمخر : صوت هبوب الريح عند شدتها . { ولتبتغوا من فضله } يعني : التجارة ، { ولعلكم تشكرون } ، إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم .
والفوج الخامس من أفواج الخلق والأنعام في البحر الملح الذي لا يشرب ولا يسقي ، ولكنه يشتمل على صنوف من آلاء الله على الإنسان :
( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، وترى الفلك مواخر فيه ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون ) . .
ونعمة البحر وأحيائه تلبي كذلك ضرورات الإنسان وأشواقه . فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام . وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان ، وغيرهما من الأصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى الآن . والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال : ( وترى الفلك مواخر فيه )فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها : رؤية الفلك( مواخر )تشق الماء وتفرق العباب . . ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلي الجمال في مظاهر الكون ، بجانب الضرورة والحاجة ، لنتملى هذا الجمال ونستمتع به ، ولا نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات .
كذلك يوجهنا السياق - أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه - إلى ابتغاء فضل الله ورزقه ، وإلى شكره على ما سخر من الطعام والزينة والجمال في ذلك الملح الأجاج : ( ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) .
القول في هذا الاستدلال وإدماج الامتنان فيه كالقول فيما سبق .
وتقدّم الكلام على تسخير الفلك في البحر وتسخير الأنهار في أثناء سورة إبراهيم .
ومن تسخير البحر خلقه على هيئة يمكن معها السبح والسير بالفلك ، وتمكين السابحين والماخرين من صيد الحيتان المخلوقة فيه والمسخّرة لحيل الصائدين . وزيد في الامتنان أن لحم صيده طريّ .
و ( مِن ) ابتدائية ، أي تأكلوا لحماً طريّاً صادراً من البحر .
والطريّ : ضد اليابس . والمصدر : الطراوة . وفعله : طَرو ، بوزن خَشُن .
والحلية : ما يتحلّى به الناس ، أي يتزينون . وتقدم في قوله تعالى { ابتغاء حلية } في سورة الرعد ( 17 ) . وذلك اللؤلؤ والمَرجان ؛ فاللؤلؤ يوجد في بعض البحار مثل الخليج الفارسي ، والمرجان يوجد في جميع البحار ويكثر ويقلّ . j وسيأتي الكلام على اللؤلؤ في سورة الحجّ ، وفي سورة الرحمان . ويأتي الكلام على المَرجان في سورة الرحمن .
والاستخراج : كثرة الإخراج ، فالسين والتاء للتأكيد مثل : استجاب لمعنى أجاب .
واللبس : جعل الثوب والعمامة والمصوغ على الجسد . يقال : لبس التاج ، ولبس الخاتم ، ولبس القميص . وتقدم عند قوله تعالى : { قد أنزلنا عليكم لباسا } في سورة الأعراف ( 26 ) .
وإسناد لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور تغليب ، وإلا فإن غالب الحلية يلبسها النساء عدا الخواتيم وحلية السيوف .
وجملة وترى الفلك مواخر فيه } معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية . وهو يستعمل في التعجيب كثيراً بصيغ كثيرة نحو : ولو ترى ، وأرأيت ، وماذا تَرى . واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحثّ على معرفة ذلك . فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى ولولاها لكان الكلام هكذا : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فُلْكٍ مواخرَ .
وعطف { ولتبتغوا } على { وتستخرجوا } ليكون من جملة النّعم التي نشأت عن حكمة تسخير البحر . ولم يجعل علة لمخر الفلك كما جعل في سورة فاطر ( 12 ) { وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله } لأن تلك لم تصدر بمنّة تسخير البحر بل جاءت في غرض آخر .
وأعيد حرف التعليل في قوله تعالى : { ولتبتغوا من فضله } لأجل البعد بسبب الجملة المعترضة .
والابتغاء من فضل الله : التجارة كما عبّر عنها بذلك في قوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } في سورة البقرة ( 198 ) .
وعطف { ولعلكم تشكرون } على بقية العلل لأنه من الحكم التي سخّر الله بها البحر للناس حملاً لهم على الاعتراف لله بالعبودية ونبذهم إشراك غير ربّه فيها . وهو تعريض بالذين أشركوا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا}، وهو السمك ما أصيد، أو ألقاه الماء وهو حي، {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها}، يعني: اللؤلؤ، {وترى الفلك}، يعني: السفن، {مواخر فيه}، يعني: في البحر مقبلة ومدبرة بريح واحد، {ولتبتغوا من فضله}، يعني: سخر لكم الفلك لتبتغوا من فضله، {ولعلكم تشكرون} ربكم في نعمه عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذي فعل هذه الأفعال بكم وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم، الذي سخر لكم البحر... "لتَأْكُلُوا منْهُ لَحْما طرِيّا "وهو السمك الذي يصطاد منه. "وتَسْتَخْرِجُوا منْهُ حلْيَةً تَلْبَسُونَها" وهو اللؤلؤ والمرجان... "وَتَرَى الفُلْكَ" يعني السفن، "مَوَاخرَ فِيهِ" وهي جمع ماخرة.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "مَوَاخرَ"؛
فقال بعضهم: المواخر: المواقر...
وقال آخرون... ما أخذ عن يمين السفينة وعن يسارها من الماء، فهو المواخر... [مواخر]:...هي السفينة تقول بالماء هكذا، يعني تشقه. [قول عكرمة]
وقال آخرون:.. عن أبي صالح: "وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ" قال: تجري فيه متعرضّة.
وقال آخرون... عن مجاهد: "وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ" قال: تمخر السفينة الرياح، ولا تمخر الريحَ من السفن إلا الفلك العظامُ...
وقال آخرون:... عن قتادة: "وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخرَ فِيهِ" تجري بريح واحدة، مُقبلة ومُدبرة...
والمخْر في كلام العرب: صوت هبوب الريح إذا اشتدّ هبوبها، وهو في هذا الموضع: صوت جري السفينة بالريح إذا عصفت وشقها الماء حينئذ بصدرها، يقال منه: مخرت السفينة تمخر مخرا ومخورا، وهي ماخرة، ويقال: امتخرت الريح وتمخرتها: إذا نظرتَ من أين هبوبها وتسمّعت صوت هبوبها...
وقوله: "وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" يقول تعالى ذكره: ولتتصرّفوا في طلب معايشكم بالتجارة سخر لكم...
وقوله: "وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ" يقول: ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم من ذلك سخر لكم ما سخر من هذه الأشياء التي عدّدها في هذه الآيات.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا} وتسخيره إياه لنا هو ما بذل للخلق ما فيه من أنواع الأموال التي خلق الله فيه من الحلي والجوهر واللؤلؤ، وبذل ما فيه من الدواب والسمك وغيره. فلولا تسخير الله إياه للخلق وتعليمه إياهم الحيل التي بها يوصل إلى ما فيه من الأموال النفيسة، وإلا ما قدروا على استخراج ما فيه و الوصول إليه لشدة أهواله وإفزاعه.
{لتأكلوا منه لحما طريا} يحتمل السمك خاصة، ويحتمل السمك وما فيه من الدواب، من نوع ما لو كان بريا أكل من نحو الجواميس وغيرها.
{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} تحتمل الحلية اللؤلؤ والمرجان الذي ذكر في آية أخرى حين قال: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن: 22). ثم يحتمل قوله: {حلية} أي ما يتخذ منه حلية. وهذا جائز أن يسمى الشيء باسم ما يتخذ منه، وباسم ما يصير به في المتعقب، أو يسمى حلية لأنه زينة. ولا شك أن اللؤلؤ والمرجان هما زينة وجمال، وفي الخيل والبغال كذلك. فالزينة في اللؤلؤ والمرجان أكثر، والجمال فيه أظهر.
ووجه تسخيره إياه لنا الحيل والأسباب التي علمنا حتى نصل إلى ما فيه. فكأنه قال: سخرت لكم البحر من أسفله إلى أعلاه. وفي ذلك دلالات:
أحدها: إباحة التجارة بركوب الأخطار لأن الغائص في البحر يخاطر بنفسه وروحه. وكذلك راكب السفن. فلو لا أنه مباح له طلب ذلك، وإلا ما ذكر هذا في منته؛ إذ هو يخرج مخرج ذكر الامتنان، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ولتبتغوا من فضله"... والواو دخلت ليعلم أن الله خلق ذلك وأراد جميع ذلك وقصده.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَحْمًا طَرِيّا}... ووصفه بالطراوة؛ لأنّ الفساد يسرع إليه، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه..
{حِلْيَةً}... والمراد بلبسهم: لبس نسائهم، لأنهنّ من جملتهم، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم.
اعلم أنه تعالى لما احتج على إثبات الإله في المرتبة الأولى بأجرام السموات، وفي المرتبة الثانية ببدن الإنسان ونفسه، وفي المرتبة الثالثة بعجائب خلقة الحيوانات، وفي المرتبة الرابعة بعجائب طبائع النبات ذكر في المرتبة الخامسة الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر فبدأ منها بالاستدلال بعنصر الماء. واعلم أن منافع البحار كثيرة، والله تعالى ذكر منها في هذه الآية ثلاثة أنواع:
المنفعة الأولى: قوله تعالى: {لتأكلوا منه لحما طريا}... في ذكر الطري مزيد فائدة، وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحا، لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري فإنه لما خرج من البحر الملح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، علم أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة، بل بقدرة الله وحكمته حيث أظهر الضد من الضد...
المنفعة الثانية: من منافع البحر قوله تعالى: {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} والمراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان...
المنفعة الثالثة: قوله تعالى: {وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله} قال أهل اللغة: مخر السفينة شقها الماء بصدرها، وعن الفراء: أنه صوت جري الفلك بالرياح.
إذا عرفت هذا فقول ابن عباس: {مواخر} أي جواري، إنما حسن التفسير به، لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية.
وقوله تعالى: {ولتبتغوا من فضله} يعني لتركبوه للتجارة فتطلبوا الربح من فضل الله، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره، والله أعلم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
..."وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
... ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله: {تَلْبَسُونَهَا} بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهنّ من جملتهم، أو لكونهنّ يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلاّ النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهنّ، وقد ورد الشرع بمعنه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال: (وترى الفلك مواخر فيه) فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها: رؤية الفلك (مواخر) تشق الماء وتفرق العباب.. ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلي الجمال في مظاهر الكون، بجانب الضرورة والحاجة، لنتملى هذا الجمال ونستمتع به، ولا نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات.
والتسخير كما علمنا من قبل هو إيجاد الكائن لمهمة لا يستطيع الكائن أن يتخلف عنها، ولا اختيار له في أن يؤديها أو لا يؤديها...
وهنا يقول سبحانه: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طرياً} (سورة النحل) واللحم إذا أطلق يكون المقصود به اللحم المأخوذ من الأنعام، أما إذا قيد ب "لحم طري "فالمقصود هو السمك، وهذه مسألة من إعجازية التعبير القرآني؛ لأن السمك الصالح للأكل يكون طرياً دائماً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نعمة الجبال والبحار والنجوم: تبيّن هذه الآيات قسماً آخر من النعم الإِلهية غير المحدودة التي تفضل بها اللّه عزَّ وجلّ على الإِنسان، فيبدأ القرآن الكريم بذكر البحار، المنبع الحيوي للحياة، فيقول: (وهو الذي سخر البحر)...
وممّا يكشف عن عظم نعمة البحار أنّها: أوسع بكثير من الطرق البرية، أقلّ كلفة، أكثر أهليةً للحركة، أعظم وسيلة نقلية للبشر، وذلك بملاحظة كبر السفن المستخدمة في النقل وضخامة ما تحمله.