إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

{ وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر } شروعٌ في تعداد النعمِ المتعلقة بالبحر إثرَ تفصيل النعمِ المتعلقة بالبر حيواناً ونباتاً ، أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به للركوب والغَوْص والاصطياد { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } هو السمك ، والتعبيرُ عنه باللحم مع كونه حيواناً للتلويح بانحصار الانتفاعِ به في الأكل ، ووصفُه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيهِ على وجوب المسارعةِ إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفسادُ كما ينبئ عنه جعلُ البحر مبتدأَ أكلِه ، وللإيذان بكمال قدرتِه تعالى في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق{[484]} ، ومن إطلاق اللحمِ عليه ذهب مالكٌ والثوري أن مَنْ حلف لا يأكلُ اللحم حنِث بأكله ، والجوابُ أن مبنى الأيمان العُرفُ ، ولا ريب في أنه لا يُفهم من اللحم عند الإطلاق ، ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحمِ فجاء بالسمك لم يكن ممتثلاً بالأمر ، ألا يرى إلى أن الله تعالى سمّى الكافرَ دابة حيث قال : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } ولا يحنَث بركوبه من حلَف لا يركب دابة { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } كاللؤلؤ والمَرْجان { تَلْبَسُونَهَا } عبر في مقام الامتنان عن لُبس نسائِهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لُبسِهن لأجلهم { وَتَرَى الفلك } السفن { مَوَاخِرَ فِيهِ } جواريَ فيه مُقبلةً ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحَيزومها ، من المخْر وهو شقُّ الماء ، وقيل : هو صوتُ جَرْي الفلك { وَلِتَبْتَغُواْ } عطف على تستخرجوا وما عُطف هو عليه ، وما بينهما اعتراضٌ لتمهيد مبادي الابتغاءِ ودفعِ توهم كونِه باستخراج الحِلية ، أو على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، ذكره ابن الأنباري أو متعلقة بفعل محذوفٍ أي وفعَل ذلك لتبتغوا { مِن فَضْلِهِ } من سَعة رزقِه بركوبها للتجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد ، ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر ، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً .


[484]:زعق الماء: كان مرا غليظا لا يطاق شربه.