فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 14 ) }

{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ } امتن الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه وكمال قدرته ، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية فأرشدهم إلى النظر ، والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتماما للحجة وتكميلا للإنذار وتوضيحا لمنازع الاستدلال ومناطات البرهان ، ومواضع النظر والاعتبار .

ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال : { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } المراد به السمك ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة ، قال قتادة : يعني حيتان البحر ، وقال السدي : وما فيه من الدواب وبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود وبه قوام البدن .

وتسميته لحم هو مذهب المالكية بخلاف الشافعية والحنفية وعلى هذا فلو حلف لا يأكل لحما لا يحنث بأكل السمك ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريا في ماء ملح ؛ والطراوة ضد اليبوسة أي غضا جددا ؛ ويقال طريت كذا أي جددته وأطريت فلانا مدحته بأحسن ما فيه ويقال بالغت في مدحه وجاوزته .

{ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ } أي من البحر وهو الملح فقط { حِلْيَةً } أي لؤلؤا ومرجانا كما في قوله سبحانه : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } والحلية اسم لما يتحلى به وأصلها الدلالة على الهيئة كالعمة وفي المصباح حلى الشيء بعيني وبصدري من باب تعب حلا وحسن عندي وأعجبنني ، وحليت المرأة حليا ساكن اللام لبست الحلي وجمعه حلي ، والأصل على فعول مثل فلس وفلوس والحلية بالكسر الصفة والجمع حلى مقصور وتضم الحاء وتكسر وحلية السيف زينته .

قال ابن فارس : ولا تجمع وتحلت المرأة لبست الحلي أو اتخذته وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي أو اتخذته لها لتلبسه وحليت السويق جعلت فيه شيئا حلوا حتى حلا .

وظاهر قوله : { تَلْبَسُونَهَا } أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله تلبسونها بقولهم تلبسها نساؤهم لأنهن من جملتهم أو لكونهن يلبسنها لأجلهم .

وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة فإن ذلك ممنوع قد ورد الشرع بمنعه من جهة كونه تشبها بهن لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان ؛ وعن أبي جعفر قال : ليس في الحلي زكاة ثم قرأ هذه الآية أخرجه أبي شيبة .

أقول وفي هذا الاستدلال نظر والذي ينبغي التعويل عليه أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم ، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها .

{ وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ } أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدورها ، قال عكرمة ومخر السفينة شقها الماء بصدرها ، قال الجوهري : مخر السابح إذا شق الماء بصدره ومخر الأرض شقها للزراعة ، وقيل مواخر جواري قاله ابن عباس وأصل المخر الجري .

في المختار مخرت السفينة من باب قطع ودخل إذا جرت تشق الماء مع صوت وقيل معترضة ، وقيل تذهب وتجيء ، قال الضحاك : السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة وقيل مواخر أي مملوءة متاعا وقال أبو عبيدة : صوائح وقيل ملججة{[1045]} قال ابن جرير : الماخر في اللغة صوت هبوب الريح عند شدتها ولم يقيد بكونه في الماء .

{ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا أو فعل ذلك لتبتغوا أي لتتجروا فيه فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه ، قال السدي : هي التجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان ، قيل ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعا لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر بل من غير حركة أصلا مع أنها في تضاعيف المهالك .

ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كونه فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له .


[1045]:يقال لججت السفينة أي خاضت اللجة أهـ صحاح.