فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

{ وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر } امتنّ الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر ، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الربّ سبحانه وكمال قدرته ، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية ، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوّعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة ، وتكميلاً للإنذار ، وتوضيحاً لمنازع الاستدلال ، ومناطات البرهان ، ومواضع النظر والاعتبار ، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال : { لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } المراد به : السمك ، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته ، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } أي : لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وظاهر قوله : { تَلْبَسُونَهَا } أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي : يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء ، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله : { تَلْبَسُونَهَا } بقوله تلبسه نساؤهم ، لأنهنّ من جملتهم ، أو لكونهنّ يلبسنها لأجلهم ، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلاّ النساء خاصة ، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهنّ ، وقد ورد الشرع بمعنه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان .

{ وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } أي : ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها . ومخر السفينة : شقها الماء بصدرها . قال الجوهري : مخر السابح : إذا شقّ الماء بصدره ، ومخر الأرض : شقها للزراعة ، وقيل : مواخر جواري ، وقيل : معترضة . وقيل : تذهب وتجيء ، وقيل : ملججة . قال ابن جرير : المخر في اللغة : صوت هبوب الريح ، ولم يقيد بكونه في ماء { وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } معطوف على { تستخرجوا } ، وما بينهما اعتراض ، أو علة على محذوفة تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا أي : لتتجروا فيه ، فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم ، اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان . قيل : ولعلّ وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر ، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك ، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له .

/خ19