محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

ثم نبه تعالى ممتنا على تسخيره البحر ، وتعداد النعم به ، إثر امتنانه بنعم البر ، بقوله :

[ 14 ] { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون 14 } .

{ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } هو السمك .

قال الزمخشري : ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله ، خيفة الفساد عليه .

قال الناصر : فكأن ذلك تعليم لأكله ، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريا . والأطباء يقولون : إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون . والله أعلم . انتهى .

/ قال الشهاب : ففيه إدماج لحكم طبي . وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخلّلا ، كما توهم . انتهى .

أقول : الأظهر في سر وصفه بالطراوة ، هو التنبيه على حسنه ولطفه ، وعلى التفكر في باهر قدرته وعجيب صنعه ، سبحانه ، في خلقه إياه ، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر ، مع اشتراكهما في الحيوانية .

{ وتستخرجوا منه حلية } كاللؤلؤ والمرجان { تلبسونها } أي تلبسها نساؤكم ، والإسناد إليهم لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية . ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم . فكأنها زينتهم ولباسهم . أو معنى ( تلبسون ) تتمتعون وتلتذون . على طريق الاستعارة والمجاز . ولو جعل من مجاز البعض لصح . أي تلبسها نساؤكم .

قال الناصر : ولله درّ مالك رضي الله عنه ، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها . وذلك مقدر بالزائد على الثلث ، لحقه فيه بالتجمل . فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن ، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له . فعبر عن حظه في لبسها بلبسه ، كما يعبر عن حظها سواء .

قال الشهاب : فإن قلت : الظاهر أن يقال تحلونهن أو تقلدونهن كما قال{[5235]} :

تروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النّظيم

وهي للنساء دون الرجال . قلت : أما الأول فسهل . لأن المراد لازمه ، أي تحلونهن . والثاني ، على فرض تسليمه ، هم يتمتعون بزينة النساء ، فكأنهم لابسون . وإذا لم يكن تغليبا ، فهو مجاز ، بمعنى : تجعلونها لباسا لبناتكم ونسائكم . ونكتة العدول ، أن النساء أمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم . فأخفى التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى . انتهى .

وناقش صاحب ( فتح البيان ) ما قدروه في الآية حيث قال : وظاهر قوله تعالى : { تلبسونها } أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء . ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله : { تلبسونها } بقولهم : تلبسها نساؤهم . لأنهن من جملتهم ، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم . وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة . فإن ذلك ممنوع ، ورد الشرع بمنعه ، من جهة كونه تشبها بهن ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤا أو مرجانا . انتهى .

قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها . واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حليا بلبس اللؤلؤ . لأنه تعالى سماه : { حليا } واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء . فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر . أنه سئل : هل في حلي النساء صدقة ؟ قال : لا هي كما قال : { حلية تلبسونها } . انتهى .

قال في ( فتح البيان ) : وفي هذا الاستدلال نظر . والذي ينبغي التعويل عليه : أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم . وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف . ولم يرد في الجواهر ، على اختلاف أصنافها ، ما يدل على وجوب الزكاة فيها . وقوله تعالى : { وترى الفلك } أي السفن { مواخر فيه } أي جواري جمع ( ماخرة ) بمعنى جارية . وأصل معنى ( المخر ) الشق لأنها تشق الماء بمقدمها { ولتبتغوا من فضله } عطف على محذوف . أي لتنتفعوا بذلك { لتبتغوا من فضله } أي من سعة رزقه ، بركوبها للتجارة { ولعلكم تشكرون } أي فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله .

/ قال أبو السعود : ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر ، من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة ، مع أحمال ثقيلة ، في مدة قليلة ، من غير مزاولة أسباب السفر . بل من غير حركة أصلا ، مع أنها في تضاعيف المهالك . وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر ، للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا .


[5235]:البيت خامس خمسة أبيات قالها الشاعر المعروف بالمنازي : انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (ج 1 ص 126 ) الترجمة رقم 58 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.