قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا } . يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار .
قوله تعالى : { قالوا آمنا } . كإيمانكم .
قوله تعالى : { وإذا خلوا } . رجعوا . ويجوز أن يكون من الخلوة .
قوله تعالى : { إلى } . بمعنى الباء أي بشياطينهم وقيل : إلى بمعنى مع كما قال الله تعالى ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) أي مع أموالكم .
قوله تعالى : { شياطينهم } . أي رؤسائهم وكهنتهم قال ابن عباس : وهم خمسة نفر من اليهود : كعب بن الأشرف بالمدينة ، وأبو بردة في بني أسلم وعبد الدار في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن السوداء بالشام . ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له . والشيطان : المتمرد العاتي من الجن والإنس ومن كل شيء وأصله البعد ، يقال بئر شطون أي : بعيدة العمق ، سمي الشيطان شيطانا لامتداده في الشر وبعده عن الخير . وقال مجاهد : إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين . قوله تعالى : { قالوا إنا معكم } . أي : على دينكم .
قوله تعالى : { إنما نحن مستهزئون } . بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما نظهر من الإسلام .
وقرأ أبو جعفر " مستهزئون ويستهزئون وقل استهزئوا وليطفئوا وليواطئوا ويستنبئونك وخاطين وخاطون ومتكين ومتكون فمالون والمنشون " بترك الهمزة فيهن .
ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين . . إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، والسفه والادعاء ، إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام :
( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزؤون ) . .
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة ، والمكر السيىء براعة . وهو في حقيقته ضعف وخسة . فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا ، ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا . وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة ، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين ، ليتقوا الأذى ، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى . . هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته ، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا . . هؤلاء المنافقون كانوا ( إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون )- أي بالمؤمنين - بما نظهره من الإيمان والتصديق !
عطف { وإذا لقوا } على ما عطف عليه : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا } [ البقرة : 12 ] { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس } [ البقرة : 13 ] . والكلام في الظرفية والزمان سواء .
والتقييد بقوله : { وإذ لقوا الذين آمنوا } تمهيد لقوله : { وإذا خلوا } فبذلك كان مفيداً فائدة زائدة على ما في قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] الآية فليس ما هنا تكراراً مع ما هناك ، لأن المقصود هنا وصف ما كانوا يعملون مع المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين ، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون . ونكتة تقديم الظرف تقدمت في قوله : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا } .
ومعنى قولهم { آمنا } أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم { آمنا } الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية التي تلقب بها المؤمنون وعُرفوا بها على حد قوله تعالى : { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي كنا على دين اليهودية فلا متعلق بقوله { آمنا } حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره ، أو أريد آمنا بما آمنتم به ، والأول أظهر ، ولقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم ومجالس المؤمنين . ومعنى { قالوا آمنا } أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب ، أي نطقوا بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان .
وقوله : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } معطوف على قوله : { وإذا لقوا } والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله : { وإذا لقوا الذين آمنوا } فتمهيد له كما علمت ، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرِّحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون : { أنؤمن كما آمن السفهاء } [ البقرة : 13 ] إنكاراً لذلك ، وواو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق وذلك أن السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم ، وإنما لم يُجعل مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل الواو في قوله : { وإذا خلوا } على الحال ، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان صالحاً لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف استقلال كلتيهما لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } منادٍ وحده بنفاقهم في هاته الحالة كما يفصح عنه قوله : { وإذا لقوا } الدال على أن ذلك في وقت مخصوص ، وأما الثاني فلأن الأصل اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظاً . ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان بالحال .
والشياطين جمع شيطان ، جمع تكسير ، وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة ، طبيعتها الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس :
{ كان من الجن } [ الكهف : 50 ] وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء ، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر ، تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة ، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق ، قال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين } [ الأنعام : 112 ] الخ .
ووزن شيطان اختلف فيه البصريون والكوفيون من علماء العربية فقال البصريون هو فيعال من شطن بمعنى بعد ؛ لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية وقال الكوفيون هو فعلان من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر . ولا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول وهل إن نونه أصل أو زائد وإلا فإنه لا يظن بنحاة الكوفة أن يدَّعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون مثل غضبان ، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى : { وحفظناها من كل شيطان رجيم } [ الحجر : 17 ] . وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيين أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل الشيطان فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط ا هـ . وفي « الكشاف » : جعل سيبويه نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ا هـ .
والوجه أن تشيطن لما كان وصفاً مشتقاً من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقاً مما اشتق منه الاسم بل من حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول فلا يكون قولهم ذلك مرجحاً لأحد القولين .
وعندي أنه اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان ، وقد كان لعرب العراق فيها السبق قبل انتقالهم إلى الحجاز واليمن ، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في أكثر اللغات القديمة . وكنت رأيت قول من قال إن اسمه في الفارسية سَيْطان .
و ( خلوا ) بمعنى انفردوا فهو فعل قاصر ويعدى بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدى بإلى على تضمين معنى آب أو خلص ويعدى بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم : « افعل كذا وخلاك ذم » أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك . وقد عدي هنا بإلى ليشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم وأنّ لقاءهم للمؤمنين إنما هو صدفة ولمحات قليلة ، أفاد ذلك كله قوله : { لقوا } و{ خلوا } وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها .
واعلم أنه حكى خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد ، وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه حرف التأكيد في قوله : { إنا معكم } مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك ؛ لأن المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين ، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم ، فجاءت حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر .
فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر .
وأما قولهم لقومهم { إنا معكم } بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم . وكذلك قولهم : { إنما نحن مستهزئون } فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم أن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق .
وقد وجه صاحب « الكشاف » العدول عن التأكيد في قولهم : { آمنا } والتأكيد في قولهم { إنا معكم } بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه ، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع ، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر . وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكداً لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار .
وقولهم : { إنما نحن مستهزئون } قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصراً إضافياً للقلب أي مؤمنون مخلصون ، وجملة : { إنما نحن مستهزئون } تقرير لقوله : { إنا معكم } لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافاً واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلاً يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين ، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا { إنما نحن مستهزئون } وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم { إنا معكم } ويدعي عكس ذلك ، وإما أن تكون الجملة بدلاً من { إنا معكم } بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالى فيه وهو مقتضى { معكم } أي في تصلبكم فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم ، والوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية .
والاستهزاء السخرية يقال : هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب ، أي عاملَه فعلاً أو قولاً يحصل به احتقاره أو والتطرية به ، سواءٌ أَشعره بذلك أم أخفاه عنه . والباء فيه للسببية قيل : لا يتعدى بغير الباء وقيل : يتعدى بمن ، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام .
وقرأ أبو جعفر ( مستهزون ) بدون همزة وبضم الزاي تخفيفاً وهو لغة فصيحة في المهموز .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا لقوا الذين آمنوا}، يعني صدقوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، {قالوا} لهم: {آمنا} صدقنا بمحمد.
{وإذا خلوا إلى شياطينهم} يعني رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه، {قالوا} لهم: {إنا معكم} على دينكم، {إنما نحن مستهزءون} بمحمد وأصحابه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذه الآية نظير الآية الأخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين، فقال:"وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ" ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله: "وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ "وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله بألسنتهم: آمنا وصدّقنا بمحمدٍ وبما جاء به من عند الله، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءا لهم عنها، وأنهم إذا خلوا إلى مَرَدَتِهم وأهل العتوّ والشرّ والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم... [و] رءوسهم في الكفر... وشياطين كل شيء مردته. قالوا لهم: "إنّا مَعَكُمْ" أي إنا معكم على دينكم، وظهراؤكم على من خالفكم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. "إنما نحن مستهزئون" بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه ...
"إنّمَا نَحْنُ مُسْتهْزِءُونَ". أجمع أهل التأويل جميعا لا خلاف بينهم، على أن معنى قوله: "إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ": إنما نحن ساخرون.
فمعنى الكلام إذا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مردتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به ومعاداته ومعاداة أتباعه، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) في قيلنا لهم إذا لقيناهم "آمَنّا باللّهِ وباليَوْمِ الآخِرِ"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أراد المنافقون أن يجمعوا بين عِشْرة الكفار وصحبة المسلمين، فإِذا برزوا للمسلمين قالوا: نحن معكم، وإذا خَلَوْا بأضرابهم من الكفار أظهروا الإخلاص لهم، فأرادوا الجمع بين الأمْرَيْن، فَنُفُوا عنهما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه.
وخلوت بفلان وإليه، إذا انفردت معه. ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى: مضى، وخلاك ذمّ: أي عداك ومضى عنك. ومنه: القرون الخالية، ومنه «خلوت به» إذا سخرت منه. وهو من قولك: خلا فلان بعرض فلان يعبث به. ومعناه: وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم، حدّثوهم بها... وشياطينهم: الذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم... {إِنَّا مَعَكُمْ} إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم.
فإن قلت: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالاسمية محققة بأن؟ قلت: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين وأوكدهما، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد. وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة. وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل. ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا} [آل عمران: 16]. وأما مخاطبة إخوانهم، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد.
فإن قلت: أنى تعلق قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} بقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} قلت: هو توكيد له، لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على اليهودية. وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} ردّ للإسلام ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم: {إِنَّا مَعَكُمْ}، فقالوا: فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا: إنما نحن مستهزئون. والاستهزاء: السخرية والاستخفاف، وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع. وهزأ يهزأ: مات على المكان... وناقته تهزأ به: أي تسرع وتخف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
على أن هذه الفئة أيضا توجد في كل عصر وزمان، يكون فيه لأهل الحق قوة وسلطان، والحكاية عنها بصيغة الماضي الواقع لا تنافي ذلك. لأن "إذا "تدل على المستقبل، فمعنى الفعل مستقبل، وإنما اختيرت صيغة الماضي لتوبيخ أولئك الأفراد وإيذانهم بأن بضاعة النفاق والمداجاة، لا تروج في سوق المؤمنين لأنها مزجاة، وأن استهزاءهم مردود إليهم، ووباله عائد عليهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين.. إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، والسفه والادعاء، إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزؤون)..
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة، والمكر السيئ براعة. وهو في حقيقته ضعف وخسة. فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا، ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا. وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين، ليتقوا الأذى، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى.. هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم -وهم غالبا- اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا..
إن منهج الشيطان يحتاج إلى خلوة، إلى مكان لا يراك فيه أحد، ولا يسمعك فيه أحد، لأن العلن في منهج الشيطان يكون فضيحة، ولذلك تجد غير المستقيم يحاول جاهدا أن يستر حركته في عدم الاستقامة، ومحاولته أن يستتر هي شهادة منه بأن ما يفعله جريمة وقبح، ولا يصح أن يعمله أحد عنه، ومادام لا يصح أن يراه أحد في مكان ما، فاعلم أنه يحس أن ما يفعله في هذا المكان هو من عمل الشيطان الذي لا يقره الله، ولا يرضى عنه.