مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ} (14)

قوله تعالى { وإذا لقوا الذين آمنوا قاوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة ، يقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا منه ، وقرأ أبو حنيفة ( وإذا لاقوا ) أما قوله { قالوا آمنا } فالمراد أخلصنا بالقلب ، والدليل عليه وجهان . الأول : أن الإقرار باللسان كان معلوما منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب ، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك . الثاني : أن قولهم للمؤمنين «آمنا » يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم ، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب ، أما قوله { وإذا خلوا إلى شياطينهم } فقال صاحب الكشاف : يقال خلوت بفلان وإليه ، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من «خلا » بمعنى مضى ، ومنه القرون الخالية ، ومن «خلوت به » إذا سخرت منه ، من قولك : «خلا فلان بعرض فلان » أي يعبث به ، ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلانا وأذمه إليك . وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم ، أما قوله { إنا معكم } ففيه سؤالان . السؤال الأول : هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم الجواب : في هذا خلاف ، لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم ؛ لئلا يتوهموا فيهم المباينة ، ومن يقول في الشياطين : المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين ، ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم ، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين ، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض ، وأما أصاغرهم فلا . السؤال الثاني : لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية ، وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة «بأن » الجواب : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين ، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة ؛ وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين ، وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم ، فلا جرم كان التأكيد لائقا به . أما قوله { إنما نحن مستهزئون } ففيه سؤالان -السؤال الأول : ما الاستهزاء ؟ الجواب : أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع ، وهزأ يهزأ مات على مكانه ، وناقته تهزأ به أي تسرع ، وحده أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية ، فعلى هذا قولهم { إنما نحن مستهزئون } يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم ، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم . السؤال الثاني : كيف تعلق قوله { إنما نحن مستهزئون } بقوله { إنا معكم } الجواب : هو توكيد له ؛ لأن قوله { إنا معكم } معناه الثبات على الكفر وقوله { إنما نحن مستهزئون } رد للإسلام ، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته ، أو بدل منه ، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو استئناف ، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا : إنا معكم ، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام ؟ فقالوا : إنما نحن مستهزئون .