" إذا " منصوب ب " قالوا " الذي هو جواب لها ، وقد تقدّم الخلاف في ذلك ، و " لقوا " فعل وفاعل ، والجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها .
وأصل " لقوا " : لقيوا بوزن " شربوا " فاستثقلت الضمة على " الياء " التي هي " لام " الكلمة ، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان : لام الكلمة وواو الجمع ، ولا يمكن تحريك أحدهما ، فحذف الأول وهو " الياء " ، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة ؛ لتجانِسَ واو الضمير ، فوزن " لَقُوا " : " فَعُوا " ، وهذه قاعدة مطّردة نحو : " خشوا " ، و " حيوا " . وقد سمع في مصدر " لقي " أربعة عشر وزناً : " لُقْياً وَلِقْيَةً " بكسر الفاء وسكون العَيْن ، و " لقاء ولقاءة " بفتحها أيضاً مع المَدّ في الثلاثة ، و " لَقَى " و " لُقَى " بفتح الفاء وضمّها ، و " لُقْيَا " بضم الفاء ، وسكون العين و " لِقِيًّا " بكسرها والتشديد و " لُقِيًّا " بضم الفاء ، وكسر العَيْنِ مع التشديد ، و " لُقْيَاناً وَلِقْيَاناً " بضم الفاء وكسرها ، و " لِقْيَانَةً " بكسر الفاء خاصّة ، و " تِلْقَاء " .
وقرأ أبو حنيفة - رحمه الله - : " وَإِذَا لاَقُوا " .
و " الَّذِينَ آمَنُوا " مفعول به ، و " قالوا " جواب " إذا " ، و " آمَنَّا " في محل نصب بالقول .
قال ابن الخطيب : " والمراد بقولهم : " آمنا " : أخلصنا بالقلب ؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم مما كانوا يحتاجون إلى بَيَانِهِ ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب ، وأيضاً فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم ، وإنما كانوا يظهرون لهم التَّكذيب بالقلب " .
وقوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ } تقدّم نظيره ، والأكثر نظيره ، والأكثر في " خَلاَ " أن يتعدّى بالباء ، وقد يتعدّى ب " إلى " ، وإنما تعدّى في هذه الآية ب " إلى " لمعنى بديع ، وهو أنه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين :
والثاني : السُّخرية والاستهزاء ، تقول : " خلوت به " أي : سخرت منه ، وهو من قولك : خَلاَ فلان بعرض فلان أي : يَعْبَثُ به .
وإذا تعدّى ب " إلى " كان نصًّا في الانفراد فقط ، أو تقول : ضمن " خلا " معنى " صرف " فتعدّى " إلى " ، والمعنى : صرفوا خَلاَهم إلى شَيَاطينهم ، أو تضمّن معنى " ذهبوا وانصرفوا " ومنه : " القرون الخالية " .
وقيل : " إلى " - هنا - بمعنى " مع " ، كقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
وقيل : هي هنا بمعنى " الباء " ، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين ، وأما البصريون فلا يُجِيزون التجوّز في الحروف ؛ لضعفها .
وقيل المعنى : وإذا خلوا رجعوا إلى شياطينهم . ف " إلى " على بابها .
والأصل في خَلَوا : خَلَوُوا ، فقلبت " الواو " الأولى التي هي " لام " الكلمة " ألفاً " لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، فبقيت ساكنة وبعدها " واو " الضمير ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما ، وهو " الألف " ، وبقيت الفتحة دالةً عليها .
و " شياطينهم " : جمع شيطان ، جمع تكسير ، وقد تقدّم القول في اشتقاقه ، فوزن شياطين : إما " فَعَالِيل " أو " فَعَالِين " على حسب القولين المتقدّمين في الاستعاذة ، والفصيح في شياطين وبابه أن يعرب بالحركات ؛ لأنه جمع تَكْسير ، وفي لغةٌ رديئة ، وهي إجراؤه إجراء الجمع المذكر السالم ، سمع منهم : " لفلان البستان حوله البُسْتَانُون " .
وقرئ شاذًّا : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطون } [ الشعراء : 210 ] .
وشياطينهم : رؤساؤهم وكَهَنَتُهُمْ .
قال ابن عباس : وهم خمسة نفر من اليهود : كَعْبُ بن الأشرف ب " المدينة " ، وأبو بردة ب " الشام " في بني أسلم ، وعبد الدار في " جهينة " ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن السوداء ب " الشام " ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له{[692]} .
وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين{[693]} .
قوله : { إِنَّا مَعَكُمْ } " إنّ " واسمها و " معكم " خبرها ، والأصل في " إنا " : " إننا " لقوله تعالى : { إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } [ آل عمران : 193 ] ، وإنما حذفت نُونَي " إنّ " لما اتصلت بنون " نا " ، تخفيفاً .
وقال أبو البقاء{[694]} : " حذفت النون الوُسْطَى على القول الصحيح ، كما حذفت في " إن " إذا خففت " .
و " مَعَ " ظرف والضمير بعده في محلّ خفض بإضافته إليه وهو الخبر - كما تقدم - فيتعلّق بمحذوف وهو ظرف مكان ، وفهم الظرفية منه قلق .
قالوا : لأنه يدلّ على الصحبة ، ومن لازم الصحبة الظَّرفية ، وأما كونه ظرف مكان ، لأنه يخبر به عن الجُثَثِ نحو : " زيد معك " ، ولو كان ظرف زمان لم يَجُزْ فيه ذلك .
واعلم أن " مع " لا يجوز تسكين عينها إلا في شعر كقوله : [ الوافر ]
فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ *** وَإِنْ كَانَتْ زَيَارَتُكُمْ لِمَامَا{[695]}
وهي حينئذ على ظرفيتها خلافاً لمن زعم أنها حينئذ حرف جَرّ ، وإن كان النَّحاس ادّعى الإجماع في ذلك ، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة ، وقد تقطع لفظاً ، فتنتصب حالاً غالباً ، تقول : جاء الزيدان معاً أي : مصطحبين ، وقد تقع خبراً ، قال الشاعر : [ الطويل ]
حَنَنْتَ إلى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ *** مَزَارَكَ مِنْ رَيَّا وَشَعْبَاكُمَا مَعَا{[696]}
ف " شَعْبَاكُمَا " مبتدأ ، و " مَعاً " خبره ، على أنه يحتمل أن يكون الخبر محذوفاً ، و " مَعاً " حال .
واختلفوا في " مع " حال قطعها عن الإضافة ؛ هل هي من باب المقصور نحو : " عصى " و " رحا " ، أو المنقوص نحو : " يد " و " دم " ؟ قولان :
والثاني : قول الخليل وسيبويه ، وتظهر فائدة ذلك إذا سمّي به
فعلى الأول تقول : " جاءني معاً " ، و " رأءَت معاً " و " مررت بمعاً " .
وعلى الثاني : " جاءني معٌ " و " رأيت مَعاً " و " مررت بمَعٍ " ك " يَدٍ " ، ولا دليل على القول الأوّل في قوله : " وشعباكما معاً " ؛ لأن معاً منصوب على الظَّرف النائب عن الخبر ، نحو : " زيد عندك " وفيها كلام كثير .
لم كانت مُخَاطبتهم للمؤمنين بالجملة الفعلية ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية محققة ب " إن " ؟
قال ابن الخطيب : الجواب : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين ؛ لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم ، لا في ادعاء أنهم في الدَّرجة الكاملة منه ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة ، لأن القول الصادر عن النّفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة ، وإما لعلمهم بأن ادِّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين ، وأما كلامهم مع إخوانهم ، فكانوا يقولونه عن الاعتقاد ، ويعلمون أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم ، فلا جَرَمَ كان التأكيد لائقاً به . واختلفوا في قائل هذا القول أَهُم كُلّ المُنَافقين ، أو بعضهم ؟
فمن حمل الشَّيَاطين على كبار المُنَافقين ، فحمل هذا القول على أنه من صغارهم ، فكانوا يقولون للمؤمنين : " آمنا " وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا : " إنا معكم " ، ومن قال : المراد بالشّياطين الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كُلّ المُنَافقين .
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } كقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها ؛ إذ هي جواب لرؤسائهم ، كأنهم لما قالوا لهم : " إنَّا مَعكُمْ " توجّه عليهم سؤال منهم ، وهو : فما بالكم مع المُؤْمنين تُظَاهرونهم على دينهم ، فأجابوهم بهذه الجملة .
وقيل : محلّها النصب ، لأنها بدلٌ من قوله : " إنَّا مَعَكُمْ " .
وقياس تخفيف همزة " مستهزؤون " ونحوه أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ ، أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها وهو " الواو " ، وهو رأي سيبويه ، ومذهب الأخفش قلبها " ياء " محضة .
وقد وقف حمزة على { مُسْتَهْزِءُونَ } و{ فَمَالِئُونَ } [ الصافات : 66 ] و{ لِيُطْفِئُواْ } [ الصف : 8 ] و{ لِّيُوَاطِئُواْ } [ التوبة : 37 ] و { وَيَسْتَنبِئُونَكَ }
[ يونس : 53 ] و{ الْخَاطِئِينَ } [ يوسف : 29 ] و{ الْخَاطِئُونَ } [ الحاقة : 37 ] ، و{ مُّتَّكِئِينَ } [ الكهف : 31 ] و{ مُتَّكِئُونَ } [ يس : 56 ] ، و{ الْمُنشِئُونَ } [ الواقعة : 72 ] بحذف صورة الهَمْزَةِ اتباعاً لرسم المُصْحَفِ .
وقولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } توكيد لقولهم : " إنَّا مَعَكُمْ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.