اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ} (14)

" إذا " منصوب ب " قالوا " الذي هو جواب لها ، وقد تقدّم الخلاف في ذلك ، و " لقوا " فعل وفاعل ، والجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها .

وأصل " لقوا " : لقيوا بوزن " شربوا " فاستثقلت الضمة على " الياء " التي هي " لام " الكلمة ، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان : لام الكلمة وواو الجمع ، ولا يمكن تحريك أحدهما ، فحذف الأول وهو " الياء " ، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة ؛ لتجانِسَ واو الضمير ، فوزن " لَقُوا " : " فَعُوا " ، وهذه قاعدة مطّردة نحو : " خشوا " ، و " حيوا " . وقد سمع في مصدر " لقي " أربعة عشر وزناً : " لُقْياً وَلِقْيَةً " بكسر الفاء وسكون العَيْن ، و " لقاء ولقاءة " بفتحها أيضاً مع المَدّ في الثلاثة ، و " لَقَى " و " لُقَى " بفتح الفاء وضمّها ، و " لُقْيَا " بضم الفاء ، وسكون العين و " لِقِيًّا " بكسرها والتشديد و " لُقِيًّا " بضم الفاء ، وكسر العَيْنِ مع التشديد ، و " لُقْيَاناً وَلِقْيَاناً " بضم الفاء وكسرها ، و " لِقْيَانَةً " بكسر الفاء خاصّة ، و " تِلْقَاء " .

وقرأ أبو حنيفة - رحمه الله - : " وَإِذَا لاَقُوا " .

و " الَّذِينَ آمَنُوا " مفعول به ، و " قالوا " جواب " إذا " ، و " آمَنَّا " في محل نصب بالقول .

قال ابن الخطيب : " والمراد بقولهم : " آمنا " : أخلصنا بالقلب ؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم مما كانوا يحتاجون إلى بَيَانِهِ ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب ، وأيضاً فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم ، وإنما كانوا يظهرون لهم التَّكذيب بالقلب " .

وقوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ } تقدّم نظيره ، والأكثر نظيره ، والأكثر في " خَلاَ " أن يتعدّى بالباء ، وقد يتعدّى ب " إلى " ، وإنما تعدّى في هذه الآية ب " إلى " لمعنى بديع ، وهو أنه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين :

أحدهما : الانفراد .

والثاني : السُّخرية والاستهزاء ، تقول : " خلوت به " أي : سخرت منه ، وهو من قولك : خَلاَ فلان بعرض فلان أي : يَعْبَثُ به .

وإذا تعدّى ب " إلى " كان نصًّا في الانفراد فقط ، أو تقول : ضمن " خلا " معنى " صرف " فتعدّى " إلى " ، والمعنى : صرفوا خَلاَهم إلى شَيَاطينهم ، أو تضمّن معنى " ذهبوا وانصرفوا " ومنه : " القرون الخالية " .

وقيل : " إلى " - هنا - بمعنى " مع " ، كقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .

وقيل : هي هنا بمعنى " الباء " ، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين ، وأما البصريون فلا يُجِيزون التجوّز في الحروف ؛ لضعفها .

وقيل المعنى : وإذا خلوا رجعوا إلى شياطينهم . ف " إلى " على بابها .

والأصل في خَلَوا : خَلَوُوا ، فقلبت " الواو " الأولى التي هي " لام " الكلمة " ألفاً " لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، فبقيت ساكنة وبعدها " واو " الضمير ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما ، وهو " الألف " ، وبقيت الفتحة دالةً عليها .

و " شياطينهم " : جمع شيطان ، جمع تكسير ، وقد تقدّم القول في اشتقاقه ، فوزن شياطين : إما " فَعَالِيل " أو " فَعَالِين " على حسب القولين المتقدّمين في الاستعاذة ، والفصيح في شياطين وبابه أن يعرب بالحركات ؛ لأنه جمع تَكْسير ، وفي لغةٌ رديئة ، وهي إجراؤه إجراء الجمع المذكر السالم ، سمع منهم : " لفلان البستان حوله البُسْتَانُون " .

وقرئ شاذًّا : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطون } [ الشعراء : 210 ] .

وشياطينهم : رؤساؤهم وكَهَنَتُهُمْ .

قال ابن عباس : وهم خمسة نفر من اليهود : كَعْبُ بن الأشرف ب " المدينة " ، وأبو بردة ب " الشام " في بني أسلم ، وعبد الدار في " جهينة " ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن السوداء ب " الشام " ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له{[692]} .

وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين{[693]} .

قوله : { إِنَّا مَعَكُمْ } " إنّ " واسمها و " معكم " خبرها ، والأصل في " إنا " : " إننا " لقوله تعالى : { إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } [ آل عمران : 193 ] ، وإنما حذفت نُونَي " إنّ " لما اتصلت بنون " نا " ، تخفيفاً .

وقال أبو البقاء{[694]} : " حذفت النون الوُسْطَى على القول الصحيح ، كما حذفت في " إن " إذا خففت " .

و " مَعَ " ظرف والضمير بعده في محلّ خفض بإضافته إليه وهو الخبر - كما تقدم - فيتعلّق بمحذوف وهو ظرف مكان ، وفهم الظرفية منه قلق .

قالوا : لأنه يدلّ على الصحبة ، ومن لازم الصحبة الظَّرفية ، وأما كونه ظرف مكان ، لأنه يخبر به عن الجُثَثِ نحو : " زيد معك " ، ولو كان ظرف زمان لم يَجُزْ فيه ذلك .

واعلم أن " مع " لا يجوز تسكين عينها إلا في شعر كقوله : [ الوافر ]

فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ *** وَإِنْ كَانَتْ زَيَارَتُكُمْ لِمَامَا{[695]}

وهي حينئذ على ظرفيتها خلافاً لمن زعم أنها حينئذ حرف جَرّ ، وإن كان النَّحاس ادّعى الإجماع في ذلك ، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة ، وقد تقطع لفظاً ، فتنتصب حالاً غالباً ، تقول : جاء الزيدان معاً أي : مصطحبين ، وقد تقع خبراً ، قال الشاعر : [ الطويل ]

حَنَنْتَ إلى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ *** مَزَارَكَ مِنْ رَيَّا وَشَعْبَاكُمَا مَعَا{[696]}

ف " شَعْبَاكُمَا " مبتدأ ، و " مَعاً " خبره ، على أنه يحتمل أن يكون الخبر محذوفاً ، و " مَعاً " حال .

واختلفوا في " مع " حال قطعها عن الإضافة ؛ هل هي من باب المقصور نحو : " عصى " و " رحا " ، أو المنقوص نحو : " يد " و " دم " ؟ قولان :

الأوّل : قول يونس ، والأخفش .

والثاني : قول الخليل وسيبويه ، وتظهر فائدة ذلك إذا سمّي به

فعلى الأول تقول : " جاءني معاً " ، و " رأءَت معاً " و " مررت بمعاً " .

وعلى الثاني : " جاءني معٌ " و " رأيت مَعاً " و " مررت بمَعٍ " ك " يَدٍ " ، ولا دليل على القول الأوّل في قوله : " وشعباكما معاً " ؛ لأن معاً منصوب على الظَّرف النائب عن الخبر ، نحو : " زيد عندك " وفيها كلام كثير .

فصل في نظم الآية

لم كانت مُخَاطبتهم للمؤمنين بالجملة الفعلية ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية محققة ب " إن " ؟

قال ابن الخطيب : الجواب : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين ؛ لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم ، لا في ادعاء أنهم في الدَّرجة الكاملة منه ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة ، لأن القول الصادر عن النّفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة ، وإما لعلمهم بأن ادِّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين ، وأما كلامهم مع إخوانهم ، فكانوا يقولونه عن الاعتقاد ، ويعلمون أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم ، فلا جَرَمَ كان التأكيد لائقاً به . واختلفوا في قائل هذا القول أَهُم كُلّ المُنَافقين ، أو بعضهم ؟

فمن حمل الشَّيَاطين على كبار المُنَافقين ، فحمل هذا القول على أنه من صغارهم ، فكانوا يقولون للمؤمنين : " آمنا " وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا : " إنا معكم " ، ومن قال : المراد بالشّياطين الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كُلّ المُنَافقين .

وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } كقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها ؛ إذ هي جواب لرؤسائهم ، كأنهم لما قالوا لهم : " إنَّا مَعكُمْ " توجّه عليهم سؤال منهم ، وهو : فما بالكم مع المُؤْمنين تُظَاهرونهم على دينهم ، فأجابوهم بهذه الجملة .

وقيل : محلّها النصب ، لأنها بدلٌ من قوله : " إنَّا مَعَكُمْ " .

وقياس تخفيف همزة " مستهزؤون " ونحوه أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ ، أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها وهو " الواو " ، وهو رأي سيبويه ، ومذهب الأخفش قلبها " ياء " محضة .

وقد وقف حمزة على { مُسْتَهْزِءُونَ } و{ فَمَالِئُونَ } [ الصافات : 66 ] و{ لِيُطْفِئُواْ } [ الصف : 8 ] و{ لِّيُوَاطِئُواْ } [ التوبة : 37 ] و { وَيَسْتَنبِئُونَكَ }

[ يونس : 53 ] و{ الْخَاطِئِينَ } [ يوسف : 29 ] و{ الْخَاطِئُونَ } [ الحاقة : 37 ] ، و{ مُّتَّكِئِينَ } [ الكهف : 31 ] و{ مُتَّكِئُونَ } [ يس : 56 ] ، و{ الْمُنشِئُونَ } [ الواقعة : 72 ] بحذف صورة الهَمْزَةِ اتباعاً لرسم المُصْحَفِ .

وقولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } توكيد لقولهم : " إنَّا مَعَكُمْ " .


[692]:- أخرجه الواحدي في "الوسيط" (1/90).
[693]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/70) وعزاه لابن جرير وعبد بن حميد عن مجاهد. وهو عند الطبري في "تفسيره" (1/298).
[694]:- ينظر الإملاء: 1/20.
[695]:- البيت لجرير ينظر ديوانه: ص 225، وللراعي النميري في ملحق ديوانه: ص 331، وينظر الكتاب: 2/4287، أوضح المسالك: 3/149، ولسان العرب (معع)، وشرح ابن عقيل: ص 395، وشرح الأشموني: 2/320، ورصف المباني: ص 329، والجنى الداني: ص 306، ومعاني القرآن: (1/54)، والأمالي الشجرية: (1/245)، (2/254)، ابن يعيش: (2/128)، (5/138)، وشرح الكافية الشافية: (2/951)، وارتشاف الضرب: (2/267)، وشرح الألفية لابن الناظم: (399)، والتصريح: (2/48، 190)، ومجمع البيان: (1/110)، والدر المصون: (1/124) شرح أبيات سيبويه: 2/291، المقاصد النحوية: 3/432.
[696]:- البيت للصمة القشيري ينظر الأغاني: 6/8، 9، وأمالي القالي: 1/190، وسمط اللآلي: ص 461، وشرح ديوان الحماسة: ص 1215، والمقاصد النحوية: 3/431، العيني: (3/431)، شرح الألفية لابن الناظم: (399)، والدر المصون: (1/124).