وآية القدرة ، وآية الحكمة ، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة . . آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل ، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه ، ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله ؛ وهو ضخم هائل دقيق النظام ، متناسق التكوين ، يأخذ بالقلب ، ويبهر اللب ، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها ؛ ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم ، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين :
( خلق السماوات بغير عمد ترونها ، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، وبث فيها من كل دابة ، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم . هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ? بل الظالمون في ضلال مبين ) . .
وهذه السماوات - بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة - تواجه النظر والحس ، هائلة فسيحة سامقة . وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله ؛ أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق . سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها ؛ والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار ، ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار . ومجرد تأملها بالعين المجردة ، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس ، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود . وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق . وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل ، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل ؛ ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك التأمل الطويل المديد ! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات ?
ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة : ( خلق السماوات بغير عمد ترونها )يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد ! إلى الأرض الصغيرة . الذرة ، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة . يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير ، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير ? يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة :
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) . .
والرواسي الجبال . ويقول علماء طبقات الأرض ؛ إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة جوف الأرض وتجمد الغازات فيه ، ونقص حجمها ، فتنكمش القشرة الأرضية وتتجعد ، وتقع فيها المرتفعات والمنخفضات وفق الانكماشات الداخلية في حجم الغازات حين تبرد ويصغر حجمها هنا وهناك . وسواء أصحت هذه النظرية أم لم تصح ، فهذا كتاب الله يقرر أن وجود هذه الجبال يحفظ توازن الأرض فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز . و قد تكون نظرية علماء الأرض صحيحة ويكون بروز الجبال على هذا النحو حافظا لتوازن الأرض عند انكماش الغازات وتقبض القشرة الأرضية هنا وهناك ، ويكون نتوء الجبال هنا موازنا لانخفاض في قشرة الأرض هناك . وكلمة الله هي العليا على كل حال . والله هو أصدق القائلين .
وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة . فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد - حتى اليوم - إدراكه ولا تفسيره . الحياة في أول صورها . في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة . فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه ? ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر . بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية ، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب . ودعك من الأحياء المعقدة . فضلا على الإنسان ، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع ، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال ؛ ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير ! ! !
( وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ) . .
وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين . هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار ، والذي تمتلئ به البحيرات ، والذي تتفجر به العيون . . هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق ، مرتبط بنظام السماوات والأرض ، وما بينهما من نسب وأبعاد ، ومن طبيعة وتكوين . . وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب . عجيبة الحياة ، وعجيبة التنوع ، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة ، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة . وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة . .
والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجا : ( من كل زوج كريم )وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريبا جدا . فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث ، إما مجتمعة في زهرة واحدة ، أو في زهرتين في العود الواحد ، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين ، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات ، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء .
ووصف الزوج بأنه( كريم )يلقي ظلا خاصا مقصودا في هذا الموضع ليصبح لائقا بأن يكون ( خلق الله )وليرفعه أمام الأنظار مشيرا إليه . .
استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيرهُ أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعْراض عن آيات الكتاب الحكيم ، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئاً كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة لله تعالى في أوصافه فذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها . ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل ، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق ، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله ، فالخطاب في قوله { ترونها } و { بكم } للمشركين ، وقد تقدم في سورة الرعد ( 2 ) قوله : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها } وتقدم في أول سورة النحل ( 15 ) قوله { وألقى في الأرض رواسيَ أن تَميدَ بكم } والمعنى خوفَ أن تميد بكم أو لئلا تُميدكم كما بين هنالك . وتقدم في سورة البقرة ( 164 ) قوله : { وبثّ فيها من كل دابّة وتصريف الرياح } وقوله { أنزلنا من السماء ماء } وهو نظير قوله في سورة البقرة ( 164 ) { وما أنزل الله من السماء من ماء } وقوله في سورة الرعد ( 17 ) { أنزل من السماء ماء فسالتْ أوْديَةٌ } والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله وأنزلنا } للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دوراناً عند الناس . وضمير { فيها } عائد إلى الأرض .
والزوج : الصنف ، وتقدم في قوله تعالى { فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى } في طه ( 53 ) وقوله { وأنبتت من كل زوج بَهيج } في سورة الحج ( 5 ) .
والكريم : النفيس في نوعه ، وتقدم عند قوله تعالى { إنِّي ألقِيَ إليَّ كتابٌ كريم } في سورة النمل ( 29 ) .
وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله { أن تميد بكم وبَث فيها من كل دابة } فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوّها ورواحها ، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمَر والكلأ والكمأة . وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شملَ الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{خلق السماوات} السبع {بغير عمد} فيها تقديم.
{ترونها}: هن قائمات ليس لهن عمد.
{وألقى في الأرض رواسي} يعني الجبال {أن تميد بكم} يقول: لئلا تزول بكم الأرض.
{وبث فيها من كل دابة}: خلق في الأرض من كل دابة.
{وأنزلنا من السماء ماء} يعني المطر {فأنبتنا فيها}: فأجرينا بالماء في الأرض {من كل زوج كريم} كل صنف من ألوان النبت حسن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن حكمته أنه "خَلَقَ السّمَوَاتِ "السبع "بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها". وقد ذكرت فيما مضى اختلاف أهل التأويل في معنى قوله بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وبيّنا الصواب من القول في ذلك عندنا... عن ابن عباس "بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها" قال: لعلها بعمد لا ترونها...
وقوله: "وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ" يقول: وجعل على ظهر الأرض رواسي، وهي ثوابت الجبال أن تميد بكم أن لا تميد بكم، يقول: أن لا تضطرب بكم، ولا تتحرّك يمنة ولا يسرة، ولكن تستقرّ بكم...
وقوله: "وَبَثّ فِيها مِنْ كُلّ دَابّةٍ" يقول: وفرّق في الأرض من كلّ أنواع الدوابّ. وقيل الدوابّ اسم لكلّ ما أكل وشرب، وهو عندي لكلّ ما دبّ على الأرض. وقوله: "وأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً، فأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ" يقول تعالى ذكره: وأنزلنا من السماء مطرا، فأنبتنا بذلك المطر في الأرض "من كلّ زوج"، يعني: من كل نوع من النبات "كريم" وهو الحسن النّبتة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{خلق السماوات بغير عمد ترونها} قال بعضهم: خلق السماوات بعمد لا ترونها. وقيل: لعل لها عمدا، لكن لا ترونها. وقال بعضهم: خلقها بلا عمد. لكن الأعجوبة في ما خلقها بعمد لا ترونها، ليست بدون الأعجوبة في خلقها بلا عمد، لأن رفع مثلها بعمد لا ترى أعظم في اللطف والقدرة من رفعها بلا عمد؛ إذ العمد لو كانت مقدار الريشة أو الشعرة ترى، فرفعها مع ثقلها وعظمها وغلظها على عمد لا ترى، هو ألطف من ذلك وأعظم في الأعجوبة مما ذكرنا، فأيهما كان، ففيه دلالة ألا يجوز تقدير قوى الخلق بقوى الله تعالى وقدرته، ولا سلطان الخلق بسلطانه، بل هو القادر على الأشياء كلها بما شاء، وكيف شاء، لا يعجزه شيء.
{وبث فيها من كل دابة}:جعل الأرض مكانا أو معدنا لكل أنواع الدواب الممتحن وغير الممتحن والمميز وغير المميز، والسماء لم يجعلها إلا لنوع من الخلق أهل العبادة.
{وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} أي أنبتنا فيها من كل لون، يتلذذ به الناظر إليه.
{كريم} ينال منه كل ما أراده، وتمناه، إذ الكريم، هو ما يطمع منه نيل كل ما عنده، وأريد منه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{من كل زوج} أي من كل نوع، و «الزوج» في النوع والصنف وليس بالذي هو ضد الفرد...
{كريم} يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعه وظهور حسن الرتبة والتحكيم للصنع فيه فيعم حينئذ جميع الأنواع لأن هذا المعنى في كلها، ويحتمل أن يريد مدحه بكرم جوهره وحسن منظره ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق الكرم، فتكون الأزواج على هذا مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها، ولما كان عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها...
{أنبتنا} يعم جميع أنواع الحيوان وأنواع النبات والمعادن...
{خلق السماوات بغير عمد ترونها} بين عزته وحكمته بقوله: {خلق السماوات بغير عمد} اختلف قول العلماء في السماوات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية، وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين، والغزالي رحمه الله قال نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلا من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز، وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله، فضلا من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحا، بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى: {كل في فلك يسبحون} والفلك اسم لشيء مستدير، بل الواجب أن يقال بأن السماوات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة الله لا موجودة بإيجاب وطبع، وإذا علم هذا فنقول السماء في مكان وهو فضاء والفضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة وإليه الإشارة بقوله: {بغير عمد} أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي لا تزول إلا بقدرة الله تعالى وقال بعضهم المعنى أن السماوات بأسرها ومجموعها لا مكان لها لأن المكان ما يعتمد عليه ما فيه فيكون متمكنا والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال ههنا وهناك على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز إذ يقال له هو ههنا وهناك، وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء، فإذا حصل على الأرض حصل في مكان، إذا علم هذا فالسماوات ليست في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها.
أحدهما: أنه راجع إلى السماوات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد.
الثاني: أنه راجع إلى العمد أي بغير عمد مرئية، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته.
{أن تميد} أي كراهية أن تميد، واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح، ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع.
{وبث فيها من كل دابة} أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب فأسكنا الأرض وحركنا الدواب.
{وأنزلنا من السماء ماء} هذه نعمة أخرى أنعمها الله على عباده، وتمامها بسكون الأرض لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات، والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة:
أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاما طويلا من نمط واحد، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه،
وأما الحكمة فمن وجهين أحدهما: أن خلق الأرض ثقيل، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع، وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة، لأن لها اختيار، فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان، ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعا فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختيارا، إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة الله تعالى، فقال: {وأنزلنا من السماء}.
الثاني: هو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان، متكثرة في كل مكان، فأسنده إلى نفسه صريحا ليتنبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}: وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها. ولما قرر أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله تعالى {وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{خلق السماوات} أي على علوها وكبرها وضخامتها {بغير عمد}...ولما ذكر العمد المقلة، اتبعه الأوتاد المقرة فقال: {وألقى في الأرض} أي التي أنتم عليها، جبالاً {رواسي} والعجب أنها من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت، تثبتها عن {أن تميد}
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{خَلَقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ} الخ استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ بما فُصِّل فيه على عزَّتِه تعالى التي هي كمالُ القدرةِ وحكمتِه التي هي كمالُ العلمِ وتمهيدُ قاعدةِ التوحيد وتقريرُه وإبطالُ أمرِ الإشراكِ وتبكيتُ أهلِه. والعَمَدُ جمعُ عمادٍ كأَهبٍ جمعُ إهابٍ وهو ما يُعمَّدُ به أي يُسندُ. على أنَّ الجمعَ لتعددِ السَّمواتِ.
{وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ} بيانٌ لصُنعه البديعِ في قرارِ الأرض إثرَ بيانِ صُنعه الحكيمِ في قرار السَّمواتِ والأرضِ أي ألقى فيها جبالاً ثوابتَ.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا}... الالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في الفعلينِ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وآية القدرة، وآية الحكمة، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة.. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه، ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله؛ وهو ضخم هائل دقيق النظام، متناسق التكوين، يأخذ بالقلب، ويبهر اللب، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها؛ ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين:
.. وهذه السماوات -بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة- تواجه النظر والحس، هائلة فسيحة سامقة. وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله؛ أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق. سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها؛ والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار، ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار. ومجرد تأملها بالعين المجردة، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود. وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق. وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل؛ ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك التأمل الطويل المديد! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات؟
ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة: (خلق السماوات بغير عمد ترونها) يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد! إلى الأرض الصغيرة. الذرة، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة. يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير؟ يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة.
(وبث فيها من كل دابة).. وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة. فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد -حتى اليوم- إدراكه ولا تفسيره. الحياة في أول صورها. في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة. فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه؟ ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر. بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب. ودعك من الأحياء المعقدة. فضلا على الإنسان، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال، ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير!!!
(وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم).. وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين. هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار، والذي تمتلئ به البحيرات، والذي تتفجر به العيون.. هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق، مرتبط بنظام السماوات والأرض، وما بينهما من نسب وأبعاد، ومن طبيعة وتكوين.. وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب. عجيبة الحياة، وعجيبة التنوع، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة. وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة.. والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجا: (من كل زوج كريم) وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريبا جدا. فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث، إما مجتمعة في زهرة واحدة، أو في زهرتين في العود الواحد، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء. ووصف الزوج بأنه (كريم) يلقي ظلا خاصا مقصودا في هذا الموضع ليصبح لائقا بأن يكون (خلق الله) وليرفعه أمام الأنظار مشيرا إليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيرهُ أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعْراض عن آيات الكتاب الحكيم، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئاً كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة لله تعالى في أوصافه فذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها.
ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله، فالخطاب في قوله {ترونها} و {بكم} للمشركين.
وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله {أن تميد بكم وبَث فيها من كل دابة} فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوّها ورواحها، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمَر والكلأ والكمأة. وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شملَ الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة...
"تَرَوْنَهَا"... فهو سبحانه يمسكها بقانون، لكن لا نعرفه نحن ولا ندركه.
والسماء في اللغة: كل ما علاك فأظلّك.
"مِن كُلِّ دَابَّةٍ"...كل تعني سورا كليا يضم كل ما له حركة ودبيب على الأرض، يعني: كل ما يقال له دابة بداية من النملة أو الفيروسات الآن إلى أكبر حيوان على الأرض.
وقوله (من) تتدرج من الصغير إلى الكبير فتدلّ على الشمول.
{من كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ... زوج أي: نوع من النبات، فهي كلمة تدل على مفرد، لكن معه مثله، والبعض يظن أنها تعني اثنين وهذا خطأ، ووصف الحق سبحانه الزوج أي النوع من النبات بأنه {كَرِيمٍ... لأنه يعطيك بكرم وسخاء، فالحبة تعطيك سبعمائة حبة، وهذا عطاء المخلوق لله، فما بالك بعطاء الخالق عز وجل؟...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير الآية إلى خمسة أقسام من مخلوقات الله التي ترتبط مع بعضها ارتباطا وثيقاً لا ينفصل، وهي: خلق السماء، وكون الكواكب معلّقة في الفضاء، وخلق الجبال لتثبيت الأرض، ثمّ خلق الدواب، وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها.
(وبثّ فيها من كلّ دابّة)... إنّ التعبير ب (من كلّ دابّة) إشارة إلى تنوّع الحياة في صور مختلفة، ابتداء من الكائنات الحيّة المجهرية والتي ملأت جميع الأرجاء إلى الحيوانات العملاقة والمخوفة. وكذلك الحيوانات المختلفة الألوان، والمتفاوتة الأشكال التي تعيش في الماء والهواء من الطيور والزواحف، والحشرات المختلفة وأمثالها، والتي لكلّ منها عالمها الخاصّ تعكس الحياة في مئات الآلاف من المرايا. إلاّ أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء، ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت إلى هذا الموضوع، فقالت: (وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم).
وبهذا فإنّ الآية تبيّن أساس حياة كلّ الحيوانات وخاصّة الإنسان والذي يكوّنه الماء والنبات، فالكرة الأرضية تعتبر سماطاً واسعاً ذا أغذية متنوّعة يمتدّ في جميع أنحائها، ويصلح لكلّ نوع منها حسب خلقته، ممّا يدلّ على عظمة الخالق جلّ وعلا.