السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجٖ كَرِيمٍ} (10)

ولما ختم بصفتي العزة وهي غاية القدرة و الحكمة وهي ثمرة العلم دل عليهما بإتقان أفعاله بقوله تعالى : { خلق السماوات } على علوّها وكبرها وضخامتها { بغير عمد } وقوله تعالى { ترونها } فيه وجهان : أحدهما : أنه راجع إلى السماوات إذ ليست بعمد أصلاً وأنتم ترونها كذلك بغير عمد ، الثاني : أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية ، وعلى كلا الوجهين هي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار . تنبيه : أكثر المفسرين أنّ السماوات مبسوطة كصحف مستوية لقوله تعالى { يوم نطوي السماء كطيّ السّجلّ للكتب } ( الأنبياء : 104 ) وقال بعضهم : إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين والغزالي رحمه الله تعالى حيث قال : ونحن نوافقهم في ذلك فإنّ لهم عليّ دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز ، وإن كان في الباب خبر يؤّول بما يحتمله فضلاً عن أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً بل فيه ما يدل على الاستدارة كقوله تعالى { كل في فلك يسبحون } ( الأنبياء : 33 ) والفلك اسم لشيء مستدير بل الواجب أنّ السماوات سواء كانت مستديرة أو صفيحة مستقيمة هي مخلوقة لله تعالى باختيار لا بإيجاب وطبع .

ولما ذكر تعالى العمد المقلة ذكر الأوتاد المقرّة بقوله تعالى : { وألقى في الأرض } أي : التي أنتم عليها جبالاً { رواسي } والعجب أنها من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت تثبتها عن { أن تميد } أي : تتحرك { بكم } كما هو شأن ما على ظهر الماء { وبث } أي : فرّق { فيها من كل دابة } .

وقوله تعالى : { وأنزلنا } أي : بما لنا من القوّة { من السما ماء } فيه التفات عن الغيبة . ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات وكان من آثار الحكمة التابعة للعلم دل عليه بقوله تعالى : { فأنبتنا } أي : بما لنا من العلوّ في الحكمة { فيها } أي : الأرض بخلط الماء بترابها { من كل زوج } أي : صنف من النبات متشابه { كريم } بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور ، وفي هذا دليل على عزته التي هي كمال القدرة .