معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

قوله تعالى : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } ، شك ونفاق .

قوله تعالى : { غر هؤلاء دينهم } ، يعني : غر المؤمنين دينهم ، هؤلاء قوم كانوا مستضعفين بمكة وقد أسلموا ، وحبسهم أقرباؤهم من الهجرة ، فلما خرجت قريش إلى بدر ، أخرجوهم كرهاً ، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا : غر هؤلاء دينهم ، فقتلوا جميعاً ، منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان ، والحارث ابن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف الجمحي ، والعاص بن منبه بن الحجاج .

قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله } ، أي : ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به .

قوله تعالى : { فإن الله عزيز } ، قوي يفعل بأعدائه ما يشاء .

قوله تعالى : { حكيم }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

41

وبعد ، فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، ويشجعهم على الخروج ، ثم يتركهم لمصيرهم البائس . . . كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف ، يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون ؛ وهم يرونها تواجه جحافل المشركين ، وهي قليلة العدد ضعيفة العدة ؛ ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة ، مخدوعين بدينهم ، ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم :

( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم ) . .

والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل : إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الاسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين ، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة !

والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ؛ فهم يرون ظواهر الأمور ، دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ؛ ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة ، والثقة في الله ، والتوكل عليه ، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية . . فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم ، مغرورين بدينهم ، واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها !

إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . . فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه ؛ والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من " الواقع " الحقيقي ! الواقع الذي يشمل جميع القوى ، ويوازن بينها موازنة صحيحة :

( ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) . .

هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه ؛ وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه ! وهذا ما يرجح الكفة ، ويقرر النتيجة ، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان .

وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، عن العصبة المسلمة يوم بدر : ( غر هؤلاء دينهم ) . . هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه ؛ وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين ؛ وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة ؛ وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله ؛ وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .

إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت ، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر ، وتستخف بالخطر ! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة ، وللأخطار الواضحة . . إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة ! . . إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها ؛ فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى ! . . إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً ؛ فهي مؤدية الى إحدى الحسنيين : النصر والغلب ، أو الشهادة والجنة . . ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف ؛ فهناك الله . . وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض !

والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة ؛ وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه ، وأن ترى بنور الله وهداه ، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة ، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله ، وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين :

( ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) . .

صدق الله العظيم . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

يتعلّق { إذ يقول } بأقرب الأفعال إليه وهو قوله : { زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 ] مع ما عطف عليه من الأفعال ، لأنّ { إذ } لا تقتضي أكثر من المقارنة في الزمان بين ما تضاف إليه وبين متعلَّقها ، فتعين أن يكون قول المنافقين واقعاً في وقت تزيين الشيطان أعمال المشركين فيتم تعليق وقت قول المنافقين بوقت تزيين الشيطان أعمال المشركين ، وإنّما تُطلب المناسبة لذكر هذا الخبر عقب الذي وَليه هو ، وتلك هي أنّ كلا الخبرين يتضمّن قوّة جيش المشركين ، وضعف جيش المسلمين ، ويقينَ أولياء الشيطان بأنّ النصر سيكون للمشركين على المسلمين . فالخبر الأول عن طائفة أعانت المشركين بتأمينهم من عدوّ يخشونه فانحازت إليهم علناً ، وذلك يستلزم تقبيح ما أقحم المسلمون فيه أنفسهم إذ عمدوا إلى قتال قوم أقوياء . والخبر الثاني : عن طائفتين شوَّهتا صنيع المسلمين حَمَّقتَاهُم ونَسَبَتاهم إلى الغرور فأسرّوا ذلك ولم يبوحوا به ، وتحدّثوا به فيما بينهم ، أو أسرّوه في نفوسهم .

فنَظْم الكلام هكذا : وزيَّن الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يقبحون أعمال المسلمين ويصفونهم بالغرور وقلّة التدبير من اعتقادهم في دينهم الذي أوقعهم في هذا الغرور ويجول في نفوس الذين في قلوبهم مرض مثل هذا .

و« القول » هنا مستعمل في حقيقته ومجازه : الشامل لحديث النفس ، لأنّ المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم ، وأمّا الذين في قلوبهم مرض وهم طائفة غير المنافقين ، بل هم مَن لم يتمكّن الإيمان من قلوبهم . فيقولونه في أنفسهم لما لهم من الشكّ في صدق وعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنّهم غير موالين للمنافقين ، ويجوز أن يتحدّثوا به بين جماعتهم .

و« المرض » هنا مجاز في اختلال الاعتقاد ، شبه بالمرض بِوجهِ سوء عاقبته عليهم . وقد تقدّم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في أول [ البقرة : 10 ] .

وأشاروا { بهؤلاء } إلى المسلمين الذين خرجوا إلى بدر ، وقد جرت الإشارة على غير مشاهد ، لأنّهم مذكورون في حديثهم أو مستحضَرون في أذهانهم ، فكانوا بمنزلة الحاضر المشاهد لهم وهم يتعارفون بمثل هذه الإشارة في حديثهم عن المسلمين .

والغرور : الإيقاع في المضرّة بإيهام المنفعة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] ، وقوله : { زخرف القول غروراً } في سورة [ الأنعام : 112 ] .

والدين هو الإسلام ، وإسنادهم الغرور إلى الدين باعتبار ما فيه من الوعد بالنصر من نحو قوله : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] الآية ، أي غرّهم ذلك فخرجوا وهم عدد قليل للقاء جيش كثير ، والمعنى : إذ يقولون ذلك عند اللقاء وقبل حصول النصر . فإطلاق الغرور هنا مجاز ، وإسناده إلى الدين حقيقة عقلية .

وجملة : { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } معطوفة على جملة : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم }

[ الأنفال : 48 ] لأنّها من جملة الأخبار المسوقة ؛ لبيان عناية الله تعالى بالمسلمين ، وللامتنان عليهم ، فالمناسبة بينها وبين الجملة التي قبلها : أنها كالعلّة لخيبة ظنون المشركين ونصرائهم ، أي أنّ الله خيّب ظنونهم لأنّ المسلمين توكّلوا عليه وهو عزيز لا يغلب ، فمن تمسك بالاعتماد عليه نصره ، وهو حكيم يكوّن أسباب النصر من حيث يجهلها البشر .

والتوكّل : الاستسلام والتفويض ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .

وجعل قوله : { فإن الله عزيز حكيم } جواباً للشرط باعتبار لازمه وهو عزّة المُتَوكِّل على الله وإلفائه منجياً من مضيق أمره ، فهو كناية عن الجواب وهذا من وجوه البيان وهو كثير الوقوع في القرآن ، وعليه قول زهير :

من يلقَ يوما على عِلاته هَرِماً *** يَلْقَ السماحة فيه والندى خُلقا

أي ينل من كرمه ولا يتخلّف ذلك عنه في حال من الأحوال ، وقولُ الربيع بن زياد العبسي :

مَن كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجهِ نهار

يجدِ النساء حواسراً يندبنــه *** بالليل قبل تبلُّج الأسفـار

أي من كان مسروراً بمقتله فسروره لا يدوم إلاّ بعض يوم ثم يحزنه أخذ الثأرِ إمّا من ذلك المسرور إن كان هو القاتل أو من أحد قومه وذلك يُحزن قومه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (49)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإن الله لسميع عليم في هذه الأحوال، وإذ يقول المنافقون. وكرّ بقوله:"إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ" على قوله: "إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مِنامِكَ قَلِيلاً". "والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ "يعني: شكّ في الإسلام لم يصح يقينهم، ولم تشرح بالإيمان صدورهم. "غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ" يقول: غرّ هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم دينهم، وذلك الإسلام. وذكر أن الذين قالوا هذا القول كانوا نفرا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم... عن عامر في هذه الآية: "إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ" قال: كان ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ... عن مجاهد، في قوله: "إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ" قال: فئة من قريش: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحرث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعليّ بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: غرّ هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوّهم...

وأما قوله: "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ" فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به ويرض بقضائه، فإن الله حافظه وناصره لأنه عزيز لا يغلبه شيء ولا يقهره أحد، فجاره منيع ومن يتوكل عليه يكفه. وهذا أمر من الله جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم أن يفوّضوا أمرهم إليه ويسلموا لقضائه، كيما يكفيهم أعداءهم، ولا يستذلهم من ناوأهم لأنه "عزيز" غير مغلوب، فجاره غير مقهور. "حِكِيمُ" يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه، حكيم لا يدخل تدبيره خلل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

في قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) دلالة إثبات رسالة محمد لأنهم إنما قالوا ذلك سرا في ما بينهم، فأطلع الله رسوله على ذلك، ليعلم أنه عرف بالله.

.. قيل لنا: ما الحكمة في ذكر قول المنافقين في القرآن حتى نتلوه في الصلاة؟ قيل: ذكره، والله أعلم، لنعرف عظيم منزلة الدين وخطير قدره في قلوبهم؛ أعني قلوب المؤمنين، وذلك أنهم بذلوا أنفسهم للهلاك لخروجهم لقتال عدوهم مع ضعفهم وكثرة أعدائهم وقوتهم رجاء أن يسلم لهم دينهم. يذكر لنا لنعرف عظيم محل الدين في قلوبهم ليكون محل الدين في قلوبنا على مثل قدره.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

والمرض في القلب كله هو الشك، وهو مشهور في كلام العرب...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

{ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} -أي عزيز لا يذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى ذمامه وحماه، وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره...

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

قوله تعالى: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض}، شك ونفاق.

قوله تعالى: {غر هؤلاء دينهم}، يعني: غر المؤمنين دينهم، هؤلاء قوم كانوا مستضعفين بمكة وقد أسلموا، وحبسهم أقرباؤهم من الهجرة، فلما خرجت قريش إلى بدر، أخرجوهم كرهاً، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا جميعاً، منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان، والحارث ابن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف الجمحي، والعاص بن منبه بن الحجاج...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِذْ يَقُولُ المنافقون} بالمدينة {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يجوز أن يكون من صفة المنافقين، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام. وعن الحسن: هم المشركون {غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ثم قال جواباً لهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... والنفاق أخص من مرض القلب؛ لأن مرض القلب مطلق على الكافر وعلى من اعترضته شبهة وعلى من بينهما، وكني بالقلوب عن الاعتقادات إذ القلوب محلها

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا، ثم إن قريشا لما خرجوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا. قال محمد بن إسحق: ثم قتل هؤلاء جميعا مع المشركين يوم بدر. وقوله: {غر هؤلاء دينهم} قال ابن عباس: معناه أنه خرج بثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل، وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل المراد: إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

{غر هؤلاء دينهم} أي: اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قد كان وقت تغرير الشيطان بالمشركين وإيهامهم أنه لا غالب لهم من الناس في ذلك اليوم هو بعينه وقت تعجب المنافقين ومرضى القلوب في الدين من إقدام هذا العدد القليل الفاقد لكل استعداد حسي من أسباب الحرب على قتال ذلك العدد الكثير الذي يفوقه ثلاثة أضعاف في العدد مع كونه لا ينقصه من الاستعداد للحرب شيء، لأن العلة واحدة، فذلك قوله تعالى: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم} فالظرف هنا متعلق ب (زين) لهم الشيطان أعمالهم، والمنافقون هم الذين يظهرون الإسلام ويسرون الكفر، والذين في قلوبهم مرض هم ضعاف الإيمان تثور بهم الشكوك والشبهات تارة فتزلزل اعتقادهم وتسكن تارة فيكونون كسائر المسلمين، وهل يميز أهل اليقين من الضعفاء إلا الامتحان بمثل هذه الشدائد؟ لم ير المنافقون ومن هم على مقربة منهم من مرضى القلوب علة يعللون بها هذا الإقدام من المؤمنين الصادقين إلا الغرور بالدين، ولعمر الإنصاف إن هذا لأقرب تعليل معقول لأمثالهم المحرومين من كمال الإيمان بالله والثقة به والتوكل عليه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم).. هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه؛ وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه! وهذا ما يرجح الكفة، ويقرر النتيجة، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان. والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة؛ وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه، وأن ترى بنور الله وهداه، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... فنَظْم الكلام هكذا: وزيَّن الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يقبحون أعمال المسلمين ويصفونهم بالغرور وقلّة التدبير من اعتقادهم في دينهم الذي أوقعهم في هذا الغرور ويجول في نفوس الذين في قلوبهم مرض مثل هذا.

و« القول» هنا مستعمل في حقيقته ومجازه: الشامل لحديث النفس، لأنّ المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم، وأمّا الذين في قلوبهم مرض وهم طائفة غير المنافقين، بل هم مَن لم يتمكّن الإيمان من قلوبهم. فيقولونه في أنفسهم لما لهم من الشكّ في صدق وعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنّهم غير موالين للمنافقين، ويجوز أن يتحدّثوا به بين جماعتهم.

و« المرض» هنا مجاز في اختلال الاعتقاد، شبه بالمرض بِوجهِ سوء عاقبته عليهم. وقد تقدّم في قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} في أول [البقرة: 10].

وأشاروا {بهؤلاء} إلى المسلمين الذين خرجوا إلى بدر، وقد جرت الإشارة على غير مشاهد، لأنّهم مذكورون في حديثهم أو مستحضَرون في أذهانهم، فكانوا بمنزلة الحاضر المشاهد لهم وهم يتعارفون بمثل هذه الإشارة في حديثهم عن المسلمين.

والغرور: الإيقاع في المضرّة بإيهام المنفعة، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} في سورة [آل عمران: 196]، وقوله: {زخرف القول غروراً} في سورة [الأنعام: 112].

والدين هو الإسلام، وإسنادهم الغرور إلى الدين باعتبار ما فيه من الوعد بالنصر من نحو قوله: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] الآية، أي غرّهم ذلك فخرجوا وهم عدد قليل للقاء جيش كثير، والمعنى: إذ يقولون ذلك عند اللقاء وقبل حصول النصر. فإطلاق الغرور هنا مجاز، وإسناده إلى الدين حقيقة عقلية.

وجملة: {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} معطوفة على جملة: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم}

[الأنفال: 48] لأنّها من جملة الأخبار المسوقة؛ لبيان عناية الله تعالى بالمسلمين، وللامتنان عليهم، فالمناسبة بينها وبين الجملة التي قبلها: أنها كالعلّة لخيبة ظنون المشركين ونصرائهم، أي أنّ الله خيّب ظنونهم لأنّ المسلمين توكّلوا عليه وهو عزيز لا يغلب، فمن تمسك بالاعتماد عليه نصره، وهو حكيم يكوّن أسباب النصر من حيث يجهلها البشر.

والتوكّل: الاستسلام والتفويض، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} في سورة [آل عمران: 159].

وجعل قوله: {فإن الله عزيز حكيم} جواباً للشرط باعتبار لازمه وهو عزّة المُتَوكِّل على الله وإلفائه منجياً من مضيق أمره، فهو كناية عن الجواب وهذا من وجوه البيان وهو كثير الوقوع في القرآن...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

... وقد بدا لي نظر لم أطلع عليه، ولكن له شواهد، وذلك أن الذين في قلوبهم مرض اليهود، ذلك أن في قلوبهم مرض الحسد، وهو أشد أدواء القلوب، وهو في اليهود دائما، فالمراد بالمنافقين الذين يقولون: إنهم مؤمنون ويبطنون الكفر، والذين في قلوبهم مرض اليهود. والوقائع التاريخية تؤيد ذلك أن المنافقين كانوا يقولون غر هؤلاء دينهم، أي أوقعهم في غرور، فظنوا أنفسهم الأقوياء، وليسوا من القوة في شيء وقال اليهود من بني قينقاع: (لقد غر هؤلاء دينهم، وغرهم انتصارهم، لئن لاقونا فسيجدننا الناس) وكان منهم اعتداء على المسلمين حتى أجلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما سبق إلى خاطرنا، وهو ينطبق على المنافقين واليهود، والشواهد التاريخية تؤيده، والله أعلم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ولكن هل قيلت هذه العبارة من المنافقين علنا؟. لا، إنهم لم يجرؤوا أن يعلنوها بل قالوها سرّا في أنفسهم، فأعلم الله سبحانه وتعالى رسوله بما حدث في نفوسهم، وكانت هذه لفتة من الله سبحانه وتعالى بأن فضح حقيقتهم لعلهم ساعة يسمعون ما يدور في أنفسهم؛ قد يتركون نفاقهم ويعودون إلى حظيرة الإيمان الصحيح وكشف الحق ما يدور في صدور المنافقين، وكان ذلك تنبيها للمؤمنين بألا يؤثر فيهم كلام المنافقين؛ لأن المؤمنين قد توكلوا على الله والله غالب في أمره.