معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

قوله تعالى : { إن تبدوا الصدقات } . أي تظهروها .

قوله تعالى : { فنعما هي } . أي : نعمت الخصلة هي و " ما " في محل الرفع و " هي " في محل النصب ، كما تقول : نعم الرجل رجلاً ، فإذا عرفت رفعت ، فقلت : نعم الرجل زيد ، وأصله : نعم ما وصلت ، قرأ أ هل المدينة غير ورش وأبو عمرو وأبو بكر : " فنعما " بكسر النون وسكون العين ، وقرأ ابن عامر و حمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين ، وقرأ ابن كثير ونافع برواية ورش يعقوب وحفص بكسرهما ، وكلها لغات صحيحة وكذلك في سورة النساء .

قوله تعالى : { وإن تخفوها } . تسروها .

قوله تعالى : { وتؤتوها الفقراء } . أي تؤتوها الفقراء في السر .

قوله تعالى : { فهو خير لكم } . وأفضل ، وكل مقبول إذا كانت النية صادقة ، ولكن صدقة السر أفضل ، وفي الحديث : صدقة السر تطفئ غضب الرب .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، اخبرنا أبو مصعب عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .

وقيل : الآية في صدقه التطوع ، أما الزكاة المفروضة فالإظهار فيها أفضل حتى يقتدي به الناس ، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل ، والنافلة في البيت أفضل ، وقيل :الآية في الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما في زماننا فالإظهار أفضل حتى لا يساء به الظن .

قوله تعالى : { نكفر عنكم سيئاتكم } . قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالنون ورفع الراء ، أي ونحن نكفر ، وقرأ أبن عامر وحفص بالياء ورفع الراء ، أي ويكفر الله ، وقرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي بالنون والجزم نسقاً على الفاء التي في قوله : ( فهو خير لكم ) لأن موضعها جزم بالجزاء ، وقوله ( من سيئاتكم ) ، قيل " من " صلة ، تقديره نكفر عنكم سيئاتكم ، وقيل : هو للتحقيق والتبعيض ، يعني : الصغائر من الذنوب .

قوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

261

وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعا أولى وأحب إلى الله ؛ وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء . فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة ، وفشو هذا المعنى وظهوره خير . . ومن ثم تقول الآية :

( إن تبدوا الصدقات فنعما هي . وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) . . فتشمل هاتين الحالتين وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف ؛ وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها ؛ وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات :

( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) . .

وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب ، والطمأنينة والراحة من جانب آخر ، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال :

( والله بما تعملون خبير ) . .

ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق ؛ وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده ؛ لندرك أمرين :

الأول : بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال ، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح ، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس . والثاني : ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم . . ولكنه كان سخاء وكرما يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام ! ولم يكن أمرا ميسورا أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله ، متجردين من هذا كله ، متجهين لله وحده دون الناس . وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة ، والجهد الكثير ، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص ! . . وقد كان . .

/خ274

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

استئناف بياني ناشىء عن قوله : { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } [ البقرة : 270 ] ، إذ أشعر تعميمُ « مِن نفقة » بحال الصدقات الخفيّة فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يُعد رِياءً وقد سمع قبل ذلك قوله : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس } [ البقرة : 264 ] ، ولأنّ قوله : { فإن الله يعلمه } [ البقرة : 270 ] قد كان قولاً فصلاً في اعتبار نيَّات المتصدّقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم . فهذا الاستئناف يدفع توهّماً من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات ، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بُدّاً من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء .

والتعريف في قوله : { الصدقات } تعريف الجنس ، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضِها ونفلها ، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقاتِ .

وجاء الشرط بإنْ في الصدقتين لأنّها أصل أدوات الشرط ، ولا مقتضى للعدول عن الأصل ، إذ كلتا الصدقتين مُرض لله تعالى ، وتفضيل صدقة السرّ قد وفى به صريح قوله : { فهو خير لكم } .

وقوله : { فنعما } أصله فنعمَ مَا ، فأدغم المِثلان وكسرت عَيْن نِعْم لأجل التقاء الساكنين ، وما في مثله نكرة تامة أي متوغّلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصّصها ، فتمامُها من حيث عدم إتباعها بوصف لا من حيث إنّها واضحة المعنى ، ولذلك تفسّر بشيء . ولما كانت كذلك تعيّن أن تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر ، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إنّ المتكلم إذا ميّز لا يميّز إلاّ بمثلِ المميَّز .

وقوله { هِي } مخصوص بالمدح ، أي الصدقاتُ ، وقد علم السامع أنّها الصدقات المُبْدَأة ، بقرينة فعل الشرط ، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤهما .

وقرأ ورش عن نافع وابنُ كثير وحفص ويعقوب فنِعِمَّا بكسر العين وتشديد الميم من نِعم مع ميم ما . وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين . وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون . وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم ، ورويت هذه أيضاً عن قالون وأبي عمرو وأبي بكر .

وقوله : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } تفضيل لصدقة السرّ لأنّ فيها إبْقاء على ماءِ وجه الفقير ، حيث لم يطّلع عليه غير المعطي . وفي الحديث الصحيح ، عَد من السبعة الذين يظلّهم الله بظلّه " . . . ورجلٌ تصدّقَ بصدقة فأخفاها حتى لا تَعلمَ شِماله ما أنْفَقَت يَمينه " ( يعني مع شدّة القرب بين اليمين والشمال ؛ لأنّ حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما ، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين ) .

وقد فضّل الله في هذه الآية صدقة السرّ على صدقة العلانية على الإطلاق ، فإن حُملت الصدقات على العموم كما هو الظاهر إجراءً للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللاّحِقة كان إخفاء صدقة الفرض والنفل أفضل ، وهو قول جمهور العلماء ، وعن الكِيَا الطَّبَري أنّ هذا أحد قول الشافعي .

وعن المهدوي : كان الإخفاء أفضل فيهما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ساءت ظنون الناس بالناس فاستحسن العلماءُ إظهار صدقة الفرض ، قال ابن عطية : وهذا مخالف للآثار أنّ إخفاء الصدقة أفضل . فيكون عموم الصدقات في الآية مخصوصاً بصدقة التطوّع ، ومخصّص العموم الإجماعُ ، وحكى ابن العربي الإجماع عليه . وإن أريد بالصدقات في الآية غير الزكاة كان المراد بها أخصّ من الإنفاق المذكور في الآي قبلها وبعدها ، وكان تفضيل الإخفاء مختصاً بالصدقات المندوبة . وقال ابن عباس والحسن : إظهار الزكاة أفضل ، وإخفاء صدقة التطوّع أفضل من إظهارها وهو قول الشافعي .

وقوله : { وتؤتوها الفقراء } ، توقّف المفسّرون في حكمة ذكره ، مع العلم بأنّ الصدقة لا تكون إلاّ للفقراء ، وأنّ الصدقة المُبْدَاة أيضاً تعطي للفقراء .

فقال العصام : « كأنّ نكتة ذكره هنا أنّ الإبداء لا ينفكّ عن إيتاء الفقراء ؛ لأنّ الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله ، بخلاف الإخفاء ، فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثّاً على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة » ( أي لأنّ الحرِيصينَ من غير الفقراء يستحيون أن يتعرّضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدّهم شيء عن التعرّض للصدقات الخفيّة ) .

وقال الخفاجي : « لم يذكر الفقراء مع المُبْدَاةِ لأنّه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراءُ وغيرهم ، وأما الصدقة المخفَاةُ فهي صدقة التطوّع ومصارفها الفقراء فقط » . وهو ضعيف لوجهين : أحدهما أنّه لا وجه لقصر الصدقة المبدَاةِ على الفريضة ولا قائل به بل الخلاف في أنّ تفضيل الإخفاء هل يعمّ الفريضة أولاً ، الثاني أنّ الصدقة المتطوّع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش .

وقال الشيخ ابن عاشور جدّي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من « صحيح مسلم » : " عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطاً للخيرية في الآية مع العلم بأنّ الصدقة للفقراء يؤذن بأنّ الخيرية لإخْفَاءِ حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه " أي فهو إيماء إلى العلة وأنّها الإبقاء على ماء وجه الفقير ، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء .

وقوله : { ويكفر عنكم من سيئاتكم } قرأه نافع والكسائي وأبو بكر وأبو جعفر وخلف بنون العظمة ، وبجزم الراء عطفاءً على موضع جملة الجواب وهي جملة فهو خير لكم ، فيكون التكفير معلّقاً على الإخفاء . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بالنون أيضاً وبرفع الراء على أنّه وعد على إعطاء الصدقات ظاهرةَ أو خفية وقرأه ابن عامر وحفص بالتحتية على أنّ ضميره عائد إلى الله وبالرفع .