سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت : { إن تبدوا الصدقات } والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه " فلان صادق المودة " و " هذا خل صادق الحموضة " و " صدق فلان في خبر " إذا أخبر على وجه الصحة والكمال ، ومنه " الصداق " لأن عقد الصداق به يتم ويكمل ، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه ، { فنعما هي } من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة ، ومثله ما يروى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " بسكون العين . ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل . قال طرفة :
نعم الساعون في الأمر المبر *** . . .
قال سيبويه : " ما " في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي . وقال أبو علي : الجيد في مثله أن يقال : " ما " في تأويل شيء لأن " ما " ههنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة . فإن " هي " مخصوصة بالمدح . فالتقدير : نعم شيئاً إبداء الصدقات . فحذف المضاف للدلالة ، أو نعم شيئاً تلك الصدقات ، أو تلك الخصلة وهي الإبداء . قال الأكثرون : المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل أما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثواباً ، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان " والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد الأعمى ، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي ، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم ، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر " وقال أيضاً : " إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله سراً ، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء " وقال صلى الله عليه وسلم : " صدقة السر تطفئ غضب الرب " وأيضاً في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف ، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة ، ولأن في الإظهار إذلالاً للآخذ وإهانة له ، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها " وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئاً فيقع في حيز اللوم والتعنيف .
نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل . وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : " السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء " واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة ، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره . فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفاً كما روي عن ابن عباس : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً . ثم إن الله تعالى عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنوار هدايته ، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة . فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم غيرهم ، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى :{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق }[ الأعراف : 181 ]{ واجعلنا للمتقين إماماً }[ الفرقان : 74 ] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدى في الذهاب إلى الله . وأما أن الإظهار في إعطاء الزكاة أفضل فلأن الله أمر الأئمة بتوجيه السعادة لطلب الزكوات ، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها ، ولأنه ينفي التهمة ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة . وعن ابن عباس : صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً . هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره ، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولا سيما إذا خاف الظلمة أن يطمعوا في ماله . وعن بعضهم أن معنى قوله { خير لكم } أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة . وإنما قيل { وتؤتوها الفقراء } لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء مميزاً لهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء . وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط . { ونكفر عنكم } من قرأ بالنون مرفوعاً فهو عطف على محل ما بعد الفاء ، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين . فإذا وقع الجزاء فعلاً مضارعاً مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف . فقوله : { فهو } في تأويل . فيكون خيراً لكم { ونكفر } بالرفع عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر ، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة . ومن قرأ مجزوماً فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل : وإن تخفوها تكن أعظم أجراً . وأما من قرأ { ويكفر } بياء الغيبة مرفوعاً فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو للإخفاء .
وقرئ { وتكفر } بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والضمير للصدقات ، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار " إن " ومعناه : وإن تخفوها تكن خيراً لكم وأن يكفر عنكم خير لكم . والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه " كفر عن يمينه " أي ستر ذنب الحنث . وقوله : { من سيئاتكم } يحتمل أن يكون " من " للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها ، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها ، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء . ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك . وقيل : إنها زائدة . { والله بما تعملون خبير } كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.