غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

267

سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت : { إن تبدوا الصدقات } والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه " فلان صادق المودة " و " هذا خل صادق الحموضة " و " صدق فلان في خبر " إذا أخبر على وجه الصحة والكمال ، ومنه " الصداق " لأن عقد الصداق به يتم ويكمل ، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه ، { فنعما هي } من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة ، ومثله ما يروى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " بسكون العين . ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل . قال طرفة :

نعم الساعون في الأمر المبر *** . . .

قال سيبويه : " ما " في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي . وقال أبو علي : الجيد في مثله أن يقال : " ما " في تأويل شيء لأن " ما " ههنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة . فإن " هي " مخصوصة بالمدح . فالتقدير : نعم شيئاً إبداء الصدقات . فحذف المضاف للدلالة ، أو نعم شيئاً تلك الصدقات ، أو تلك الخصلة وهي الإبداء . قال الأكثرون : المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل أما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثواباً ، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان " والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد الأعمى ، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي ، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم ، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر " وقال أيضاً : " إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله سراً ، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء " وقال صلى الله عليه وسلم : " صدقة السر تطفئ غضب الرب " وأيضاً في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف ، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة ، ولأن في الإظهار إذلالاً للآخذ وإهانة له ، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها " وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئاً فيقع في حيز اللوم والتعنيف .

نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل . وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : " السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء " واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة ، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره . فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفاً كما روي عن ابن عباس : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً . ثم إن الله تعالى عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنوار هدايته ، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة . فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم غيرهم ، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى :{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق }[ الأعراف : 181 ]{ واجعلنا للمتقين إماماً }[ الفرقان : 74 ] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدى في الذهاب إلى الله . وأما أن الإظهار في إعطاء الزكاة أفضل فلأن الله أمر الأئمة بتوجيه السعادة لطلب الزكوات ، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها ، ولأنه ينفي التهمة ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة . وعن ابن عباس : صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً . هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره ، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولا سيما إذا خاف الظلمة أن يطمعوا في ماله . وعن بعضهم أن معنى قوله { خير لكم } أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة . وإنما قيل { وتؤتوها الفقراء } لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء مميزاً لهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء . وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط . { ونكفر عنكم } من قرأ بالنون مرفوعاً فهو عطف على محل ما بعد الفاء ، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين . فإذا وقع الجزاء فعلاً مضارعاً مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف . فقوله : { فهو } في تأويل . فيكون خيراً لكم { ونكفر } بالرفع عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر ، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة . ومن قرأ مجزوماً فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل : وإن تخفوها تكن أعظم أجراً . وأما من قرأ { ويكفر } بياء الغيبة مرفوعاً فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو للإخفاء .

وقرئ { وتكفر } بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والضمير للصدقات ، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار " إن " ومعناه : وإن تخفوها تكن خيراً لكم وأن يكفر عنكم خير لكم . والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه " كفر عن يمينه " أي ستر ذنب الحنث . وقوله : { من سيئاتكم } يحتمل أن يكون " من " للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها ، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها ، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء . ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك . وقيل : إنها زائدة . { والله بما تعملون خبير } كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء .

/خ274