محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (271)

{ إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفّر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير 271 } .

{ إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي } نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية . وبيان له . ولذلك ترك العطف بينهما . أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها . لأنه يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع من محتاج وغيره ويفيد إتباع الناس إياه { وإن تخفوها } أي تُسرّوها مخافة الرياء ، وسترا لعار الفقراء { وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } أي من العلانية . لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات { ويكفّر عنكم من سيئاتكم } ذنوبكم بقدر صدقاتكم { والله بما تعملون خبير } ترغيب في الإسرار . وفي ( الصحيحين ) {[1434]} عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل . وشاب نشأ في عبادة ربه . ورجل قلبه معلّق في المساجد . ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه . ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين . ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه . ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ) . وروى الإمام أحمد{[1435]} وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال : ( قلت يا رسول الله / أيّ الصدقة أفضل ؟ قال : سرٌّ إلى فقير ، أو جهد من مقلّ ) .

لطائف : قال : أبو البقاء في قوله تعالى : { فنعما هي } : نِعْمَ فعل جامد لا يكون فيه مستقبل . وأصله نَعِمَ كعلم . وقد جاء على ذلك في الشعر . إلا أنهم سكّنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون ليكون دليلا على الأصل . ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل . ومنهم من يكسر النون . والعين إتباعا . وبكلٍّ قد قرئ . وفاعل ( نعم ) مضمر و( ما ) بمعنى شيء . ثم قال . { ونكفّر عنكم } يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عز وجل ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضا وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء . ويقرأ ( وتكفر ) بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة . ويقرأ بجزم الراء عطفا على موضع { فهو خير } وبالرفع على إضمار مبتدأ أي ونحن أو وهي . و( من ) هنا زائدة عند الأخفش فيكون { سيئاتكم } المفعول . وعند سيبويه المفعول محذوف أي شيئاً من سيئاتكم . والسيئة فيْعِلة . وعينها واو لأنها من ساء يسوء فأصلها سيوئة فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها . انتهى .

وفي ( غيث النفع ) : قرأ { فنعما } الشامي . والأخوان بفتح النون . والباقون بالكسر . وقرأ قالون والبصريّ وشعبة بإسكان العين واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين يريدون الاختلاس فراراً من الجمع بين الساكنين ، والباقون بكسر العين ، واتفقوا على تشديد الميم . ثم ناقش الشاطبيّ في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف عليه إلا الإخفاء ، مع أنه روي عنهم الإسكان المحض أيضا . ثم قال : وقد صرّح المحقق في ( نشره ) أن الداني روى الوجهين جميعا . ثم قال : والإسكان آثر والإخفاء أقيس وهو قراءة أبي جعفر والحسن . وغاية ما فيه الجمع بين الساكنين وليس أولهما حرف مد ولين وهو جائز قراءةً ولغةً . ولا عبرة بمن أنكره ولو كان إمام البصرة . والمنكر له هنا يقرأ به لحمزة في قوله تعالى : { فما استطاعوا } {[1436]} . بالكهف إذ فيه الجمع بين الساكنين وصلا بلا شك إذ السين ساكن والطاء مشدد وهذا مثله . / والله أعلم وبه يعلم ردّ ما قيل إن راوي التسكين لم يضبط القراءة لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكانا فإنه غفلة عن جوازه لغة . كما حكاه أبو عبيد . وعن القراءة بنظيره في { استطاعوا } وبالله التوفيق .


[1434]:أخرجه البخاريّ في: 10 ـ كتاب الأذان، 36 ـ باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة.
[1435]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة 178 من الجزء الخامس (طبعة الحلبيّ).
[1436]:[18/ الكهف/ 97] ونصها: {فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا 97}.