قوله تعالى : { ما أشهدتهم } ما أحضرتهم ، وقرأ أبو جعفر ما أشهدتهم بالنون والألف على التعظيم ، أي : أحضرناهم يعني : إبليس وذريته . وقيل : الكفار . وقال الكلبي : يعني الملائكة ، { خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } ، يقول : ما أشهدتهم خلقاً فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها ، { وما كنت متخذ المضلين عضداً { ، أي : الشياطين الذين يضلون الناس عضداً ، أي : أنصاراً وأعواناً .
ولماذا يتولون أعداءهم هؤلاء ، وليس لديهم علم ولا لهم قوة . فالله لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فيطلعهم على غيبه . والله لا يتخذهم عضدا فتكون لهم قوة :
ما أشهدتم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ، وما كنت متخذ المضلين عضدا . .
إنما هو خلق من خلق الله ، لا يعلمون غيبه ، ولا يستعين بهم سبحانه . .
( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) فهل يتخذ الله سبحانه غير المضلين عضدا ?
وتعالى الله الغني عن العالمين ، ذو القوة المتين . . إنما هو تعبير فيه مجاراة لأوهام المشركين لتتبعها واستئصالها . فالذين يتولون الشيطان ويشركون به مع الله ، إنما يسلكون هذا المسلك توهما منهم أن للشيطان علما خفيا ، وقوة خارقة . والشيطان مضل ، والله يكره الضلال والمضلين . فلو أنه - على سبيل الفرض والجدل - كان متخذا له مساعدين ، لما اختارهم من المضلين !
الضمير في { أشهدتهم } عائد علىلكفار ، وعلى الناس بالجملة ، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين ، وأهل الطبائع ، والمتحكمين من الأطباء ، وسواهم من كل من يتخوض في هذه الأشياء .
قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، قال : سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاد المهدوي بالمهدية ، يقول سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول ويتأول هذا التأويل في هذه الآية ، وأنها رادة على هذه الطوائف ، وذكر هذا بعض الأصوليين ، وقيل الضمير في { أشهدتهم } عائد على ذرية إبليس ، فهذه الآية ، على هذا تتضمن تحقيرهم ، والقول الأول أعظم فائدة ، وأقول : إن الغرض المقصود أولاً بالآية ، هم إبليس وذريته ، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم والمعظمين للجن حين يقولون أعوذ بعزيز هذا الوادي ، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته ، وهم أضلوا الجميع ، فهم المراد الأول ب { المضلين } ، وتندرج هذه الطوائف في معناهم ، وقرأ الجمهور ، «وما كنتُ » وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف «وما كنتَ »{[7831]} ، والصفة ب { المضلين } ، تترتب في الطوائف المذكورة ، وفي ذرية إبليس لعنه الله ، و «العضد » استعارة للمعين المؤازر ، وهو تشبيه بالعضد للإنسان الذي يستعين به ، وقرأ الجمهور «عَضُداً » بفتح العين وضم الضاد ، وقرأ أبو عمرو والحسن بضمهما ، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد ، وقرأ عكرمة «عُضْداً » بضم العين وسكون الضاد ، وقرأ عيسى بن عمر «عَضَداً » بفتح العين والضاد ، وفيه لغات غير هذا لم يقرأ بها .
تتنزل هذه الجملة منزلة التعليل للجملتين اللتين قبلها وهما { أفتتخذونه وذريته } إلى قوله : { بدلاً } [ الكهف : 50 ] ، فإنهم لما لم يشهدوا خلق السماوات والأرض لم يكونوا شركاء لله في الخلق بطريق الأولى فلم يكونوا أحقاء بأن يعبدوا . وهذا احتجاج على المشركين بما يعترفون به فإنهم يعترفون بأن الله هو المتفرد بخلق السماوات والأرض وخلق الموجودات .
والإشهاد : جعل الغير شاهداً ، أي حاضراً ، وهو هنا كناية عن إحضار خاص ، وهو إحضار المشاركة في العمل أو الإعانة عليه . ونفي هذا الشهود يستلزم نفي المشاركة في الخلق والإلهية بالفحوى أي ، بالأولى ، فإن خلق السماوات كان قبل وجود إبليس وذريته ، فهو استدلال على انتفاء إلهيتهم بسبق العدم على وجودهم . وكل ما جاز عليه العدم استحال عليه القِدم ، والقدم من لوازم الإلهية . وضمائر الغيبة في قوله : { أشهدتهم } وقوله : { أنفسهم } عائدة إلى المتحدث عنه ، أي إبليس وذريته كما عاد إليهم الضمير في قوله : { وهم لكم عدوّ } .
ومعنى { أنفسهم } ، أنفس بعضهم بقرينة استحالة مشاهدة المخلوق خلق نفسه ، فإطلاق الأنفس هنا نظير إطلاقه في قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وفي قوله : { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } [ البقرة : 84 ] ، أي أنفس بعضكم . فعلى هذا الوجه تتناسق الضمائر ويتقوم المعنى المقصود .
واعلم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق لهما سكانهما كما دل عليه قوله : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها } [ فصّلت : 9 12 ] . وكان أهل الجاهلية يعتقدون في الأرض جنّا متصرفين فكانوا إذا نزلوا وادياً مخوفاً قالوا : أعوذ بعزيز هذا الوادي ، ليكونوا في أمن من ضره .
وقرأ أبو جعفر { ما أشهدناهم } بنون العظمة ، وقرأ { وما كنتَ } بفتح التاء على الخطاب ، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في النهي .
والمراد ب { المضلّين } الشياطين ، لأنهم أضلوا الناس بإلقاء خواطر الضلالة والفساد في النفوس ، كما قال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] .
وجملة { وما كنت متخذ المضلين عضداً } تذييل لجملة { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } .
والعدول عن الإضمار بأن يقال : وما كنت متخذهم إلى { المضلين } لإفادة الذم ، ولأن التذييل ينبغي أن يكون كلاماً مستقلاً .
والعضد بفتح العين وضم الضاد المعجمة في الأفصح ، و بالفتح وسكون الضاد في لغة تميم . وفيه لغات أخرى أضعف . ونسب ابن عطية أن أبا عمرو قرأه بضم العين وضم الضاد على أنها لغة في عَضد وهي رواية هارون عن أبي عمرو وليست مشهورة . وهو : العظم الذي بين المرفق والكتف ، وهو يطلق مجازاً على المعين على العمل ، يقال : فلان عَضدي واعتضدت به .
والمعنى : لا يليق بالكمال الإلهي أن أتخذ أهل الإضلال أعواناً فأشركهم في تصرفي في الإنشاء ، فإن الله مفيض الهداية وواهب الدراية فكيف يكون أعوانه مصَادر الضلالة ، أي لا يعين المُعين إلا على عمل أمثاله ، ولا يكون إلا قريناً لأشكاله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.