قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يعني : القرآن { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } يعني الإنكار يتبين ذلك في وجوههم من الكراهية والعبوس ، { يكادون يسطون } يعني : يقعون ويبسطون إليهم أيديهم بالسوء . وقيل : يبطشون { بالذين يتلون عليهم آياتنا } أي : بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ . يقال : سطا عليه وسطا به ، إذا تناوله بالبطش والعنف ، وأصل السطو القهر { قل } يا محمد ، { أفأنبئكم بشر من ذلكم } أي : بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون { النار } يعني : هي النار . { وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير* }
وأعجب شيء أنهم وهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ، وما ليس لهم به علم . لا يستمعون لدعوة الحق ، ولا يتلقون الحديث عنها بالقبول . إنما تأخذهم العزة بالإثم ، ويكادون يبطشون بمن يتلون عليهم كلام الله : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر ، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ) . .
إنهم لا يناهضون الحجة بالحجة ، ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجأون إلى العنف والبطش عندما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل . وذلك شأن الطغاة دائما يشتجر في نفوسهم العتو ، وتهيج فيهم روح البطش ، ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف الغليظ !
ومن ثم يواجههم القرآن الكريم بالتهديد والوعيد : ( قل : أفأنبئكم بشر من ذلكم ? ) بشر من ذلكم المنكر الذي تنطوون عليه ، ومن ذلك البطش الذي تهمون به . . ( النار ) . . وهي الرد المناسب للبطش والمنكر ( وبئس المصير ) . .
والضمير في { عليهم } عائد على كفار قريش ، والمعنى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن من النبي عليه السلام أو من أحد من أصحابه وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء إلى التوحيد عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالي ، والمعنى أنهم { يكادون يسطون } دهرهم أجمع ، وأما في الشاذ من الأوقات فقد سطا بالتالين نحو ما فعل بعبد الله بن مسعود وبالنبي عليه السلام حين أغاثه ، وحل الأمر أبو بكر ، وبعمر حين أجاره العاصي بن وائل وأبي ذر وغير ذلك ، والسطو : إيقاع بمباطشة أو أمر بها ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع { أأنبئكم } أي أخبركم { بشر من ذلكم } والإشارة ب { ذلك } إلى السطو ثم ابتدأ ينبىء كأن قائلاً قال له وما هو قال { النار } أي نار جهنم ، وقوله { وعدها الله الذين كفروا } ، يحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعدهم بالنار فيكون الوعد في الشر ونحو ذلك لما نص عليه ، ولم يجىء مطلقاً ، ويحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه إذ الذي يقتضيه تسرعها إلى الكفار وقولها هل من مزيد{[8432]} ونحوه أن ذلك من مسارها ، و { المصير } مفعل من صار إذا تحول من حال إلى حال ع ، ويقتضي كلام الطبري في هذه الآية أن الإشارة ب { بذلكم } هي إلى أصحاب محمد التالين ثم قال : ألا أخبركم بأكره إليكم من هؤلاء أنتم الذين وعدتم النار{[8433]} وأسند نحو هذا القول إلى قائل لم يسمه وهذا كله ضعيف .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } .
عطف على جملة { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً } [ الحج : 71 ] لبيان جُرم آخر من أجرامهم مع جُرم عبادة الأصنام ، وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن .
والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات لقوله { وإذا تتلى عليهم } .
والمنكر : إما الشيء الذي تُنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسماً ، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء ، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمُكْرم بمعنى الإكرام . والمَحْملان آيلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغَيْظ والغضب عندما يُتلى عليهم القرآن ويُدعون إلى الإيمان . وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثرُه بواطنهم فظهر على وجوههم . كما في قوله تعالى : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } [ المطففين : 24 ] كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرّتهم به . ولأجل هذه الكناية عدل عن التصريح بنحو : اشتدّ غيظهم ، أو يكادون يتميزون غيظاً ، ونحو قوله : { قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } [ النحل : 22 ] .
وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارها إياها ، إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها .
والخطاب في قوله { تعرف } لكلّ من يصلح للخطاب بدليل قوله { بالذين يتلون عليهم آياتنا } .
والتعبير ب { الذين كفروا } إظهار في مقام الإضمار . ومقتضى الظاهر أن يكون { تعرف في وجوه الذين كفروا } ، أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم يُنزّل به سلطاناً ، فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علّة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر .
والسُّطُوّ : البطش ، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدّة الغضب والغيظ من سماع القرآن .
{ والذين يتلون } يجوز أن يكون مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } [ الفرقان : 37 ] ، أي كذّبوا الرسول .
ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القرآن من المسلمين والرسول ، أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرأوا عليهم القرآن ، أو لعلّ السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة .
وجملة { يكادون يسطون } في موضع بدل الاشتمال لجملة { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } لأن الهمّ بالسطو مما يشتمل عليه المنكر .
{ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير }
استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمرَ الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار .
والتفريع بالفاء ناشىء من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ . ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظاً .
ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله { وإذا تتلى عليهم آياتنا } ، أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبيّنة لكفرهم ، وفرع عليها وعيدهم بالنار .
والاستفهام مستعمل في الاستئذان ، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم .
وشرّ : اسم تفضيل ، أصله أشرّ : كثر حذف الهمزة تخفيفاً ، كما حذفت في خير بمعنى أخير .
والإشارة ب { ذلكم } إلى ما أثار مُنكَرهم وحفيظتهم ، أي بما هو أشد شرّاً عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم ، أي فإن كنتم غاضبين لما تُلي عليكم من الآيات فازدادوا غضباً بهذا الذي أنَبّئكم به .
وقوله { النّار } خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله { بشر من ذلكم } . والتقدير : شرّ من ذلكم النّارُ .
فالجملة استئناف بياني ، أي إن سألتم عن الذي هو أشدّ شراً فاعلموا أنه النار .
وجملة { وعدها الله } حال من النّار ، أو هي استئناف .
والتعبير عنهم بقوله : { الذين كفروا } إظهار في مقام الإضمار ، أي وعدها الله إياكم لكفركم .
{ وبئس المصير } أي بئس مصيرهم هي ، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه ، فتكون الجملة إنشاء ذمّ معطوفة على جملة الحال على تقدير القول . ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم ، أي بئس المصير هي لمن صار إليها ، فتكون الجملة تذييلاً لما فيها من عموم الحكم للمخاطبين وغيرهم وتكون الواو اعتراضية تذييلية .