اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡمُنكَرَۖ يَكَادُونَ يَسۡطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَاۗ قُلۡ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكُمُۚ ٱلنَّارُ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (72)

قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } يعني القرآن «بَيِّنَاتٍ » لأنه متضمن للدلائل العقلية وبيان الأحكام . وقوله : «تَعْرِفُ » العامة على «تعرف » خطاباً مبنياً للفاعل ، «المُنْكَر » مفعول به . وعيسى بن عمر «يُعْرَف » بالياء من تحت مبنياً للمفعول ، «المنكر » مرفوع قائم مقام الفاعل{[31871]} ، والمنكر اسم مصدر بمعنى الإنكار .

وقوله : «الَّذِينَ كَفَرُوا » من إقامة الظاهر مقام المضمر للشهادة عليهم بذلك ، قال الكلبي : تَعْرِف في وجوههم الكراهية للقرآن . وقال ابن عباس : التجبر والترفع . وقال مقاتل : أنكروا أن يكون من الله{[31872]} .

قوله : «يَكَادُونَ يَسْطُونَ » هذه حال إما من الموصول ، وإن كان مضافاً إليه لأن المضاف جزؤه{[31873]} وإما من الوجوه لأنها يُعَبَّرُ بها عن أصحابها كقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [ عبس : 40 ] ثم قال : «أُولَئِكَ هُم »{[31874]} . و «يَسْطُونَ » ضُمن معنى يبطشون فتعدى تعديته{[31875]} ، وإلا فهو متعدّ ب ( على ) . يقال : سطا عليه ، وأصله القهر والغلبة{[31876]} ، وقيل : إظهار ما يهول للإخافة ، ولفلان سطوة أي تسلط وقهر . وقال الخليل{[31877]} والفراء{[31878]} والزجاج{[31879]} : السطو شدة البطش والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيماً لإنكار ما خوطبوا به{[31880]} . أي : يكادون يبطشون { بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من شدة الغيظ ، يقال : سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف{[31881]} ثم أمر رسوله بأن يقابلهم{[31882]} بالوعيد فقال : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ من ذلكم } أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون . أو من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم{[31883]} . قوله : «النار » تقرأ بالحركات الثلاث ، فالرفع{[31884]} من وجهين :

أحدهما : الرفع على الابتداء والخبر الجملة من «وعَدَهَا اللَّهُ »{[31885]} ، والجملة لا محل لها فإنها مفسرة للشر المتقدم كأنه قيل : ما شر من ذلك ؟ ( فقيل : النار وعدها الله .

والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل : ما شر من ذلك{[31886]} ) فقيل : النار أي : هو النار{[31887]} وحينئذ يجوز في «وَعَدَهَا اللَّهُ » الرفع على كونها خبراً بعد خبر{[31888]} ، وأجيز أن يكون بدلاً من النار . وفيه نظر من حيث إن المبدل منه مفرد ، وقد يجاب عنه بأن الجملة في تأويل مفرد{[31889]} ، ويكون بدل اشتمال ، كأنه قيل : النار وعدها الله الكفار .

وأجيز أن تكون مستأنفة لا محل لها{[31890]} . ولا يجوز أن تكون حالاً ، قال أبو البقاء لأنه ليس في الجملة ما يصلح أن يعمل في الحال {[31891]} .

وظاهر نقل أبي حيان عن الزمخشري أنه يجيز كونها حالاً فقال : وأجاز الزمخشري أن تكون «النَّارُ » مبتدأ و «وَعَدَها » خبر ، وأن تكون حالاً على الإعراب الأول{[31892]} انتهى .

والإعراب الأول هو كون «النار » خبر مبتدأ مضمر . والزمخشري لم يجعلها حالاً إلا إذا نصبت «النار » أو جررتها بإضمار قد {[31893]} . هذا نصه وإنما منع ذلك لما تقدم من قول أبي البقاء ، وهو عدم العامل . وأما النصب فهو قراءة زيد بن علي وابن أبي عبلة{[31894]} . وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الفعل الظاهر ، والمسألة من الاشتغال{[31895]} .

الثاني : قال الزمخشري : إنها منصوبة على الاختصاص{[31896]} .

الثالث : أن ينتصب بإضمار أعني{[31897]} ، وهو قريب مما قبله أو هو هو . وأما الجر فهو قراءة ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح{[31898]} ، على البدل من «شَرّ »{[31899]} والضمير في «وَعَدَهَا » قال أبو حيان : الظاهر أنه هو المفعول الأول ، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }{[31900]} [ ق : 30 ] ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و «الَّذِينَ كَفَرُوا » هو المفعول الأول ، كما قال : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ }{[31901]} {[31902]} [ التوبة : 68 ] . قال شهاب الدين : وينبغي أن يتعين هذا الثاني ، لأنه متى اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول ، فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول ، ونعني بالفاعل المعنوي من يتأتى منه فعل ، فإذا قلت : وعدت زيداً ديناراً . فالدينار هو المفعول ، لأنه لا يتأتى منه فعل ، وهو نظير أعطيت زيداً درهماً . فزيد هو الفاعل ، لأنه آخذ للدرهم {[31903]} .

وقوله : «وَبِئْسَ المَصِير » المخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس المصير هي النار .

فصل

والمعنى : أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم ، وهي النار وعدها الله الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وبئس المصير هي .


[31871]:المختصر (96)، البحر المحيط 6/388.
[31872]:انظر الفخر الرازي 23/67.
[31873]:تقدم الكلام في مجيء الحال.
[31874]:من قوله تعالى: {وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس: 40 – 41، 42] انظر التبيان 2/948.
[31875]:أي: تعدى بالباء.
[31876]:اللسان (سطا).
[31877]:العين (سطو) 7/277.
[31878]:معاني القرآن 2/230..
[31879]:معاني القرآن وإعرابه 3/ 438.
[31880]:انظر الفخر الرازي 23/ 68.
[31881]:انظر البغوي 5/612.
[31882]:في ب: يعاملهم. وهو تحريف.
[31883]:انظر الكشاف 3/40.
[31884]:وهو قراءة الجمهور. البحر المحيط 6/389.
[31885]:انظر البيان 2/179، الكشاف 3/40.
[31886]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31887]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/ 438، الكشاف 3/40، البيان 2/179، التبيان 2/948.
[31888]:انظر الكشاف 3/40.
[31889]:تقدم الكلام على بدل الجملة من المفرد، وقد أجازه ابن جني والزمخشري وابن مالك.
[31890]:انظر الكشاف 3/40، التبيان 2/948.
[31891]:انظر التبيان 2/948.
[31892]:البحر المحيط 6/389.
[31893]:قال الزمخشري: (وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار قد) الكشاف 3/40.
[31894]:البحر المحيط 6/389.
[31895]:انظر التبيان 2/948، البحر المحيط 6/389.
[31896]:الكشاف 3/40.
[31897]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/438، التبيان 2/948.
[31898]:البحر المحيط 6/389.
[31899]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/438، الكشاف 3/40، التبيان 2/948، البحر المحيط 6/389.
[31900]:من قوله تعالى: {يوم نقول لجهنم هلا امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق: 30].
[31901]:[التوبة: 68].
[31902]:البحر المحيط 6/389.
[31903]:الدر المصون5/81.