معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

{ إن تتوبا إلى الله } أي من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء . يخاطب عائشة وحفصة ، { فقد صغت قلوبكما } أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة . قال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، أنبأنا عبد الله بن عباس قال : لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى لهما : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } حتى حج وحججت معه ، وعدل وعدلت معه بإداوة ، فتبرز ثم جاء ، فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ ، فقلت له : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى لهما :{ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } فقال : واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة . ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال : إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت حدثته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره ، وإذا نزل فعل مثله . وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولم تنكر أن أراجعك ! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل . فأفزعني فقلت : خابت من فعلت منهن بعظيم . ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة ، فقلت : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : خابت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي ، لا تستكثري على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ، ولا تهجريه وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- . قال عمر : وكنا تحدثنا أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته ، فرجع عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أثم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ؟ فقلت : ما هو أجاءت غسان ! قال : لا بل أعظم منه وأطول ، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه . فقلت : قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون . فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل مشربة فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت : ما يبكيك ألم أكن حذرتك ؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : لا أدري هو ذا في المشربة . فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم ، فجلست معهم قليلاً ثم غلبني ما أجد ، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلي فقال : قد كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت للغلام : استأذن لعمر ، فدخل ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فاستأذن ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت . فلما وليت منصرفاً ، فإذا الغلام يدعوني ، فقال : قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ فرفع إلي بصره فقال : لا ، فقلت : الله أكبر . ثم قلت وأنا قائم أستأنس : يا رسول الله لو رأيتني ، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلت : يا رسول الله لو رأيتني ، ودخلت على حفصة فقلت لها : لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى ، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله تعالى ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال : أو في هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا . فقلت : يا رسول الله استغفر لي . فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة ، وكان يقول : ما أنا بداخل عليهن شهراً -من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى . فلما مضت تسع وعشرون ليلة ، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها ، فقالت له عائشة : يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً فإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عداً ! فقال : الشهر تسع وعشرون ، وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين ليلة . قالت عائشة : ثم أنزل الله آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه ، فاخترته ، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن " أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه فبدأ بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي بالجواب حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، ثم قال إن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى تمام الآيتين ، فقلت : أو في هذا استأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سماك ابن زميل حدثنا عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : " لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وذكر الحديث . وقال : دخلت عليه فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . وقلما تكلمت -وأحمد الله تعالى- بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } و{ إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } " . قوله : { وإن تظاهرا عليه } أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم . قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء ، والآخرون بتشديدها . { فإن الله هو مولاه } أي وليه وناصره . قوله : { وجبريل وصالح المؤمنين } روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب : { وصالح المؤمنين } أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال الكلبي : هم المخلصون الذي ليسوا بمنافقين . قوله :{ والملائكة بعد ذلك ظهير } قال مقاتل : بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين ظهير ، أي : أعوان النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع ، كقوله : { وحسن أولئك رفيقا }( النساء- 69 ) .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

ويتغير السياق من الحكاية عن حادث وقع إلى مواجهة وخطاب للمرأتين كأن الأمر حاضر :

( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما . وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ) . .

وحين نتجاوز صدر الخطاب ، ودعوتهما إلى التوبة لتعود قلوبهما فتميل إلى الله ، فقد بعدت عنه بما كان منها . . حين نتجاوز هذه الدعوة إلى التوبة نجد حملة ضخمة هائلة وتهديدا رعيبا مخيفا . .

ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين . والملائكة بعد ذلك ظهير ! ليطيب خاطر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويحس بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير !

ولا بد أن الموقف في حس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي محيطه كان من الضخامة والعمق والتأثير إلى الحد الذي يتناسب مع هذه الحملة . ولعلنا ندرك حقيقته من هذا النص ومما جاء في الرواية على لسان الأنصاري صاحب عمر - رضي الله عنهما - وهو يسأله : جاءت غسان ? فيقول لا بل أعظم من ذلك وأطول . وغسان هي الدولة العربية الموالية للروم في الشام على حافة الجزيرة ، وهجومها إذ ذاك أمر خطير . ولكن الأمر الآخر في نفوس المسلمين كان أعظم وأطول ! فقد كانوا يرون أن استقرار هذا القلب الكبير ، وسلام هذا البيت الكريم أكبر من كل شأن . وأن اضطرابه وقلقه أخطر على الجماعة المسلمة من هجوم غسان عملاء الروم ! وهو تقدير يوحي بشتى الدلالات على نظرة أولئك الناس للأمور . وهو تقدير يلتقي بتقدير السماء للأمر ، فهو إذن صحيح قويم عميق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

المخاطبة بقوله تعالى : { إن تتوبا } هي لحفصة وعائشة ، وفي حديث البخاري وغيره عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : مَن اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال حفصة وعائشة ، وقوله تعالى : { صغت قلوبكما } ، معناه مالت أي عن المعدلة والصواب ، والصغا : الميل ، ومنه صياغة الرجل وهم حواشيه الذين يميلون إليه ، ومنه أصغى إليه بسمعه ، وأصغى الإناء ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «فقد زاغت قلوبكما » ، والزيغ الميل وعرفه في خلاف الحق ، قال مجاهد : كما نرى صغت شيئاً هيناً حتى سمعنا قراءة ابن مسعود : «زاغت » ، وجمع القلوب من حيث الإنسان جمع ومن حيث لا لبس في اللفظ ، وهذا نظير قول الشاعر [ حطام المجاشعي ] : [ الرجز ]

ظهراهما مثل ظهور الترسين***{[11187]}

ومعنى الآية ، إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه ، وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى ، وإنما ترتب جواباً في اللفظ ، { وإن تظاهرا } معناه : تتعاونا ، وقرأ جمهور الناس والسبعة «تظاهرا » وأصله تتظاهرا ، فأدغمت التاء في الظاء بعد البدل ، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس : «إن تتظاهرا » بتاءين على الأصل ، وقرأ نافع بخلاف عنه وعاصم وطلحة وأبو رجاء والحسن : «تظهرا » بتخفيف الظاء على حذف التاء الواحدة ، وروي عن ابن عمر أنه قرأ : «تظّهّرا » بشد الظاء والهاء دون ألف ، والمولى : الناصر المعين ، وقوله { وجبريل وصالح المؤمنين } يحتمل أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى في قوله : { هو } ، فيكون { جبريل وصالح المؤمنين } في الولاية ، ويحتمل أن يكون { جبريل } رفعاً بالابتداء ، وما بعده عطف عليه ، و { ظهير } الخبر فيكون حينئذ من الظهراء لا في الولاية ويختص بأنه مولى الله تعالى ، واختلف الناس في { صالح المؤمنين } ، فقال الطبري وغيره من العلماء : ذلك على العموم ، ويدخل في ذلك كل صالح ، وقال الضحاك وابن جبير وعكرمة : المراد أبو بكر وعمر . ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم{[11188]} ، وقال مجاهد نحوه ، وقال أيضاً : وعلي ، وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { صالح المؤمنين } ، علي بن أبي طالب ){[11189]} ذكره الثعلبي . وقال قتادة والعلاء بن زياد وغيره : هم الأنبياء ، وإنما يترتب ذلك بأن تكون مظاهرتهم أنهم قدوة وأسوة فهم عون بهذا ، وقوله تعالى : { وصالح } يحتمل أن يكون اسم جنس مفرداً ، ويحتمل أن يريد «وصالحو » فحذفت الواو في خط المصحف ، كما حذفوها في قوله : { سندع الزبانية }{[11190]} [ العلق : 18 ] وغير ذلك . ويروى عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، لا تكترث بأمر نسائك والله معك وجبريل معك ولو بكر معك ، وأنا معك .

فنزلت الآية موافقة نحو أمر قول عمر{[11191]} .


[11187]:هذا البيت من رجز الشاعر الإسلامي الخطام المجاشعي، يقول: ومهمه قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور التُّرسين والمهمه: القفر المخوف، والقذف- بفتح القاف والذال وقد تكونان بالضم- هو البعيد من الأرض، وفي رواية فدفين، والفدفد: الأرض المستوية، والمرت- بفتح الميم وسكون الراء بعدهما تاء- هو الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات، والظهر: ما ارتفع من الأرض، وهو يستشهد بالبيت على جواز معاملة المثنى على أنه جمع، والعرب يقولون: أقل الجمع اثنان؟ لأن التثنية جمع شيء إلى مثله، قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله"ما أحسن وجوههما"؟ فقال: الاثنان جماعة، وعلى هذا جاء قوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وقال الزجاج نقلا عن بعض النحويين: إنما جُعلت تثنية ما في الإنسان منه واحد. جمعا؛ لأن أكثر أعضائه فيه منها اثنان، فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك.
[11188]:أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرج مثله الطبراني في الأوسط، وابن مردويه، عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم.(الدر المنثور).
[11189]:أخرجه ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن علي رضي الله عنه، وأخرج مثله ابن مردويه عن أسماء بنت عُميس.(الدر المنثور).
[11190]:الآية (18) من سورة (العلق).
[11191]:رواه البخاري، عن أنس رضي الله عنه، كذلك رواه ابن أبي حاتم عنه.(الدر المنثور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

التفات من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما فهو استئناف خطاب وجهه الله إلى حفصة وعائشة لأن إنباء النبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير والإِرشاد إلى رأْب ما انثلم من واجبها نحو زوجها . وإذ قد كان ذلك إثماً لأنه إضاعة لحقوق الزوج وخاصة بإفشاء سرّه ذكَّرها بواجب التوبة منه .

وخطاب التّثنية عائدة إلى المنبئة والمنأبة فأمّا المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله : { إلى بعض أزواجه } [ التحريم : 3 ] .

وأما المنبَّأة فمعادها ضمنيّ لأن فعل { نبأت } [ التحريم : 3 ] يقتضيه فأما المنبَّئة فأمرها بالتوبة ظاهر . وأما المُذاع إليها فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك فهاتان موعظتان لمذيع السرّ ومشاركة المذاع إليه في ذلك وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعته عنه ضرتها .

و { صَغت } : مالت ، أي مالت إلى الخير وحق المعاشرة مع الزوج ، ومنه سمي سماع الكلام إصغاء لأن المستمع يُميل سمعه إلى من يكلمه ، وتقدم عند قوله تعالى : { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } في سورة [ الأنعام : 113 ] . وفيه إيماء إلى أن فيما فعَلَتَاه انحرافاً عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما .

وهذان الأدَبَان الثامن والتاسع من الآداب التي اشتملت عليها هذه الآيات .

والتوبة : الندم على الذنب ، والعزم على عدم العودة إليه وسيأتي الكلام عليها في هذه السورة .

وإذْ كان المخاطب مثنَّى كانت صيغة الجمع في ( قلوب ) مستعملة في الاثنين طلباً لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين فإن صيغة التثنية ثقيلة لقلة دورانها في الكلام . فلما أُمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية .

وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس . وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعاً كما في هذه الآية وقول خطام المجُاشعي :

ومَهمهين قَذَفين مَرْتَيْنْ *** ظهراهما مثلُ ظُهور التُرسين

وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافاً إلى اسم المثنى لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران . ويقلّ أن يؤتى بلفظ المفرد مضافاً إلى الاسم المثنى . وقال ابن عصفور : هو مقصور على السماع .

وذكر له أبو حيّان شاهداً قول الشاعر :

حمامةَ بطننِ الواديين ترنّمي *** سقاك من الغُرّ الغوادي مطيرها

وفي « التسهيل » : ترجيح التعبير عن المثنى المضاففِ إلى مثنى باسممٍ مفرد ، على التعبير عنه بلفظ المثنى . وقال أبو حيّان في « البحر المحيط » : إن ابن مالك غلط في ذلك . قلت : وزعم الجاحظ في كتاب « البيان والتبيين » ، أن قول القائل : اشترِ رأسَ كبشين يريد رأسَيْ كبشين خطأ .

قال : لأن ذلك لا يكون اه . وذلك يؤيد قول ابن عصفور بأن التعبير عن المضاففِ المثنى بلفظ الإِفراد مقصور على السماع ، أي فلا يصار إليه . وقيّد الزمخشري في « المفصل » هذا التعبير بقيد أن لا يكون اللفظان متصلين . فقال : « ويُجعل الاثنان على لفظ جمع إذا كانا متصلين كقوله : { فقد صغت قلوبكما } ولم يقولوا في المنفصلين : أفراسهما ولا غلمانهما . وقد جاء وضَعا رحالهما » . فخالف إطلاق ابن مالك في « التسهيل » وطريقة صاحب « المفصل » أظهر .

وقوله : { وإن تظّاهرا عليه } هو ضد { إن تتوبا } أي وإن تصرّا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه الخ .

والمظاهرة : التعاون ، يقال : ظاهره ، أي أيده وأعانه . قال تعالى : { ولم يظاهروا عليكم أحداً } في سورة [ براءة : 4 ] . ولعلّ أفعال المظاهر ووصف ظهير كلها مشتقة من الاسم الجامد ، وهو الظَّهر لأن المعين والمؤيد كأنه يشد ظَهر من يعينه ولذلك لم يسمع لهذه الأفعال الفرعية والأوصاف المتفرعة عنها فعل مجرد . وقريب من هذا فعل عَضَد لأنهم قالوا : شَد عضده .

وأصل { تظّاهرا } تتظاهرا فقلبت التاء ظاء لقرب مخرجيها وأدغمت في ظاء الكلمة وهي قراءة الجمهور . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي { تَظَاهرا } بتخفيف الظاء على حذف إحدى التاءين للتخفيف .

{ وصالحُ } مفرد أريد به معنى الفريق الصالح أو الجنس الصالح من المؤمنين كقوله تعالى : { فمنهم مهتد } [ الحديد : 26 ] . والمراد ب { صالح المؤمنين } المؤمنون الخالصون من النفاق والتردد .

وجملة { فإن الله هو مولاه } قائمة من مقام جواب الشرط معنى لأنها تفيد معنى يتولّى جزاءكما على المظاهرة عليه ، لأن الله مولاه . وفي هذا الحذف مجال تذهب فيه نفس السامع كل مذهب من التهويل .

وضمير الفصل في قوله : { هو مولاه } يفيد القصر على تقدير حصول الشرط ، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما ، أي وبطل نصركما الذي هو واجبكما إذْ أخللتما به على هذا التقدير . وفي هذا تعريف بأن الله ناصر رسولَه صلى الله عليه وسلم لئلا يقع أحد من بعد في محاولة التقصير من نصره .

فهذا المعنى العاشر من معاني الموعظة والتأديب التي في هذه الآيات .

وعطفُ { وجبريل وصالح المؤمنين } في هذا المعنى تنويه بشأن رسول الوحي من الملائكة وشأن المؤمنين الصالحين . وفيه تعريض بأنهما تكونان ( على تقدير حصول هذا الشرط ) من غير الصالحين .

وهذان التنويهان هما المعنيان الحادي عشر والثاني عشر من المعاني التي سبقت إشارتي إليها .

وقوله : { والملائكة بعد ذلك ظهير } عطف جملةٍ على التي قبلها ، والمقصود منه تعظيم هذا النصر بوفرة الناصرين تنويهاً بمحبة أهل السماء للنبيء صلى الله عليه وسلم وحسننِ ذكره بينهم فإن ذلك مما يزيد نصر الله إياه شأناً .

وفي الحديث « إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحِبَّه فيحبُّه جبريل ثم ينادي جبريلُ في أهل السماء إن الله قد أحب فلاناً فأحِبُّوه فيحبُّه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض » .

فالمراد بأهل الأرض فيه المؤمنون الصالحون منهم لأن الذي يحبه الله يحبّه لصلاحه والصالح لا يحبّه أهل الفساد والضلال . فهذه الآية تفسيرها ذلك الحديث .

وهذا المعنى الثالث عشر من معاني التعليم التي حوتها الآيات .

وقوله : { بعد ذلك } اسم الإِشارة فيه للمذكور ، أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين .

وكلمة { بعد } هنا بمعنى ( مع ) فالبَعدية هنا بَعدية في الذّكر كقوله : { عتل بعد ذلك زنيم } [ القلم : 13 ] .

وفائدة ذكر الملائكة بعد ذكر تأييد الله وجبريل وصالح والمؤمنين أن المذكورين قبلهم ظاهره آثار تأييدهم بوحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل ونصره إياه بواسطة المؤمنين فنبه الله المرأتين على تأييد آخر غيرِ ظاهرة آثاره وهو تأييد الملائكة بالنصر في يوم بدر وغير النصر من الاستغفار في السماوات ، فلا يتوهم أحد أن هذا يقتضي تفضيل نصرة الملائكة على نصرة جبريل بَلْه نصرة الله تعالى .

و { ظهير } وصف بمعنى المظاهر ، أي المؤيد وهو مشتقّ من الظهر ، فهو فعيل بمعنى مفاعل مثل حكيم بمعنى محكم كما تقدم آنفاً في قوله : { وإن تظاهرا عليه } ، وفعيل الذي ليس بمعنى مفعول أصله أن يطابق موصوفه في الإِيراد وغيره فإن كان هنا خبراً عن الملائكة كما هو الظاهر كان إفراده على تأويل جمع الملائكة بمعنى الفَوج المظاهر أو هو من إجراء فعيل الذي بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول . كقوله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] ، وقوله : { وكان الكافر على ربه ظهيراً } [ الفرقان : 55 ] وقوله : { وحسن أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] ، وإن كان خبراً عن جبريل كان { صالح المؤمنين والملائكة } عطفاً على جبريل وكان قولُه { بعد ذلك } حالاً من الملائكة .

وفي الجمع بين { أظهره الله عليه } [ التحريم : 3 ] وبين { وإن تظاهرا عليه } وبين { ظهير } تجنيسات .