قوله تعالى : { فدلاهما بغرور } ، أي : خدعهما ، يقال : ما زال إبليس يدل فلانا بالغرور ، يعني : ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول ، وقيل : حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية ، ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل والتدلية : إرسال الدلو في البئر ، يقال : تدلى بنفسه ودعا غيره ، وقال الأزهري : أصله من تدلية العطشان في البئر ليروى من الماء ، ولا يجد الماء فيكون تدلى بالغرور عن إظهار النصح مع إبطان الغش .
قوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } ، قال الكلبي : فلما أكلا منها ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة ، والعقوبة أن بدت { ظهرت لهما سوآتهما } عوراتهما ، وتهافت عنهما لباسهما ، حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه ، وكانا لا يريان ذلك ، قال وهب : كان لباسهما من النور ، وقال قتادة : كان ظفراً ألبسهما الله من الظفر لباساً ، فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا .
قوله تعالى : { وطفقا } ، أقبلا وجعلا .
قوله تعالى : { يخصفان } ، يرقعان ويلزقان ويصلان .
قوله تعالى : { عليهما من ورق الجنة } ، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب . قال الزجاج : يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما . وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق ، كثير شعر الرأس ، فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته ، وكان لا يراها ، فانطلق هارباً في الجنة ، فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره ، فقال لها : أرسليني ، قالت : لست بمرسلتك ، فناداه ربه : يا آدم أتفر مني ؟ قال : لا يا رب ، ولكن استحييتك .
قوله تعالى : { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } ، يعني : عن الأكل منها .
قوله تعالى : { وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } ، أي : بين العداوة ، وقال محمد بن قيس : ناداه ربه يا آدم أكلت منها وقد نهيتك ؟ قال : رب أطعمتني حواء ، قال لحواء : لم أطعمتيه ؟ قالت : أمرتني الحية ، قال للحية : لم أمرتيها ؟ قالت : أمرني إبليس ، فقال الله تعالى : أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين كل شهر ، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على بطنك ووجهك ، وسيشدخ رأسك من لقيك ، وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور .
نسيا هذا كله ، واندفعا يستجيبان للإغراء !
( فدلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ؛ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ؟ ) . .
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة . لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته ، فأنزلهما إلى مرتبة دنيا :
ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت ، تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما . فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض ( يخصفان ) ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما - مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريها ، ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من صنع الجاهلية !
( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما : إن الشيطان لكما عدو مبين ؟ )
وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة . . أما كيف كان النداء وكيف سمعاه ، فهو كما خاطبهما أول مرة . وكما خاطب الملائكة . وكما خاطب إبليس . كلها غيب لا ندري عنه إلا أنه وقع . وأن الله يفعل ما يشاء .
{ فدلاهما بغرور } يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك ، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف ، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي ، وفي آية أخرى { فأكلا منها } .
وقوله تعالى :{ بدت } قيل تخرقت عنهما ثياب الجنة وملابسها وتطايرت تبرياً منهما ، وقال وهب بن منبه كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما فانقشع بالمعصية ذلك النور ، وقال ابن عباس وقتادة : كان عليهما ظفر كاسٍ فلما عصيا تقلص عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية فيجددان الندم ، { وطفقا } معناه أخذا وجعلا وهو فعل لا يختص بوقت كبات وظل .
و { يخصفان } معناه يلصقانها ويضمان بعضها إلى بعض ، والمخصف الإشفى ، وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة ، وقرأ جمهور الناس «يَخصفان » من خصف وقرأ عبد الله بن بريدة «يخصّفان » من خصف بشد الصاد وقرأ الزهري «يُخصفان » من أخصف ، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب : «يَخَصِّفان » بفتح الياء والخاء وكسر الصاد وشدها ، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب ، وأصلها يختصفان كما تقول سمعت الحديث واستمعته فأدغمت التاء في الصاد ونقلت حركتها إلى الخاء ، وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه ، لكن لما سكنت التاء وأدغمت في الصاد اجتمع ساكنان فكسرت الخاء على عرف التقاء ساكنين ، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد «يَخِصِّفان » بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد وشدها وقد تقدم تعليلها ، قال ابن عباس : إن الورق الذي خصف منه ورق التين ، وروى أبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سموق ، فلما واقع المعصية وبدت له حاله فرّ على وجهه فأخذت شجرة بشعر رأسه يقال إنها الزيتونة فقال لها : أرسليني فقالت ما أنا بمرسلتك ، فناداه ربه أمني تفر يا آدم ؟ قال لا يا رب ، ولكن أستحييك ، قال أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك ؟ قال بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً ، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّاً .
{ وناداهما } الآية ، قال الجمهور إن هذا النداء نداء وحي بواسطة ، ويؤيد ذلك أنّا نتلقى من الشرع أن موسى عليه السلام هو الذي خصص بين العالم بالكلام ، وأيضاً ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين ، يقولون لموسى يوم القيامة أنت خصك الله بكلامه واصطفاك برسالته اذهب فاشفع للناس ، وهذا ظاهره أنه مخصص ، وقالت فرقة بل هو نداء تكليم .
قال القاضي أبو محمد : وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال نبي مكلم ، وأيضاً فإن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض ، فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى عليه السلام ، ويؤيد أنه نداء وحي اشتراك حواء فيه ، ولم يرو قط أن الله عز وجل كلم حواء ، ويتأول قوله عليه السلام «نبي مكلَّم » أنه بمعنى موصل إليه كلام الله تعالى ، وقوله عز وجل { الم أنهكما } سؤال تقرير يتضمن التوبيخ ، وقوله { تلكما } يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة ، { وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه ، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.