{ فدلاهما } أي حطهما عن درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره . وعن الأزهري أن معناه أطمعهما . وأصله من تدلية العطشان شيئاً في البئر فلا يجد ما يشفي غليله . وقيل : هو من الدالة وهي الجرأة في فجرأهما كما قال
: أظن الحلم دل على قومي *** وقد يستجهل الرجل الحليم
فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء { بِغُرُورٍ } أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به ، فالباء للمصاحبة أو الملابسة . والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول . وجعل بعضهم الغرور مجازاً عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه ، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما طنا أن أحداً لا يقسم بالله تعالى كاذباً ورووا في ذلك خبراً . وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه . وذهب كثير من الحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظناً ، وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال . ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية ، وقال القطب : يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله : { مَا نهاكما } [ الأعراف : 20 ] الخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه : { وَقَاسَمَهُمَا } [ الأعراف : 21 ] فلم يصدقاه أيضاً فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكانه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى : { فدلاهما بِغُرُورٍ } وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله / تعالى : { فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] وجعل العتاب الآتي على ترك التحفظ فتدبر .
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } أي أكلا منها أكلاً يسيراً { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا } قال الكلبي : تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا { *وَطفقَا } أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بءلصاق بعضها ببعض . وقيل أصله الضم والجمع { عَلَيْهِمَا } أي على سوآتهما أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر . وقيل : الضمير عائد على { سَوْءتِهِمَا } .
{ مِن وَرَقِ الجنة } وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة . وقيل : الموز . وقرأ الزهري { يَخْصِفَانِ } من أخصف ، وأصله خصف إلا أنه كما قال الجاربردي نقل إلى أخصف للتعدية ، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولاً للتصيير ( على أصل ) الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصير .
وجوز بعضهم كون خصف وأخصف بمعنى . وقرأ الحسن { يَخْصِفَانِ } بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من ازفتعال ، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين . وقرأ يعقوب بفتحها . وقرىء { يَخْصِفَانِ } من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعاً للياء وهي قراءة عسرة النطق .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } بطريق العتاب والتوبيخ { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلاً : ألم أنهكما { عَن تِلْكُمَا الشجرة } إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها . والتثنية لتثنية المخاطب . { وَأَقُل لَّكُمَا } عطف على { أَنْهَكُمَا } أي ألم أقل لكما { إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي ظاهر العداوة ، وهذا على ما قيل : عتاب وتوبيخ على الإغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي . ولم يحك هذا القول ههنا ، وقد حكي في سورة طه ( 117 ) بقوله سبحانه : { إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } الآية و { لَّكُمَا } متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه .
واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي . والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين .
( ومن باب الإشارة ) :{ فدلاهما } فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها { بِغُرُورٍ } بما غرهما من كأس القسم المترعة من حميا ذكر الحبيب { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا } والقليل منها بالنسبة إليهما كثير { سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } أي يكتمان هاتيك السوآت والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا } بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات { عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ] وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.