" الباء " للحال أي : مصاحبين للغرور ، أو مصاحباً للغرور فهي حال : إمَّا من الفاعل ، أو من المفعول ويجوز أن تكون الباءُ سببيَّةً أي : دَلاَّهُمَا بسببِ أنْ غَرَّهُمَا .
والغُرُورُ : مصدرٌ حُذف فَاعِلُهُ ومفعوله ، والتقديرُ : بِغُروره إيَّاهُمَا وقوله : " فَدَلاَّهَمَا " يحتملُ أن يكون من التَدْلِيَةِ من معنى دَلاَ دَلْوَه في البِئْرِ ، والمعنى أطمعهما .
قال أبُو منصور الزْهَرِيُّ{[15927]} : لهذه الكلمة أصلان :
أحدهما : أن يكون أصْلُهُ أن الرَّجُلَ العَطْشَانَ يُدْلِي رِجْلَهُ في البئر ليأخذ الماء ، فلا يجدُ فيها ماء فوضعت التَّدْلية موضع الطَّمعِ فيما لا فائدة فيه ، يقالُ : دَلاَّهُ : إذا أطْمَعَهُ .
أحُصُّ فَلاَ أُجِيرُ ومَنْ أُجِرْهُ *** فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بالغُرُورِ{[15928]}
وأن تكون من الدَّالِّ ، والدَّالَّةَ ، وهي الجُرْأة [ أي ] : فَجَرَّأهما قال : [ الوافر ]
أظُنُّ الحِلْمُ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي *** وقدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ{[15929]}
وعلى الثاني [ يكون ] الأصل دَلَّلَهُمَا ، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال فأبدلت الثَّالث حرف لين كقولهم : تَظنَّيْتُ في تظَّننْت ، وقَصَّيْتُ أظْفَاري في قَصَصْتُ . وقال : [ الرجز ]
تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ{[15930]} ***
قال ابنُ عبَّاس " فَدلاَّهُمَا بِغُرُورٍ " أي غرهما باليمين وكان آدمُ يظنُّ أنَّ أحداً لا يحلف كَاذِباً باللَّه{[15931]} .
وعن ابن عمر أنَّهُ كان إذا رَأى من عبيده طاعةً وحسن صلاة أعْتَقَهُ فكان عبيدُهُ يفعلون ذلك طلباً لِلْعتْقِ فقيل له إنَّهُم يخدعُونَكَ فقال : من خَدَعَنَا باللَّهِ ؛ انخدعنا له{[15932]} .
قيل معناه ما زال يخدعه ، ويكلمه بزخرف من القول باطل .
وقيل حطَّهُمَا من مَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ إلى حالةِ المَعْصية ، ولا يكونُ الدلوى إلاَّ من علوٍّ إلى أسْفَلٍ .
قوله : { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } " الذَّوْقُ " وجود الطَّعْمِ بالفَم ، ويعبر به عن الأكل وقيل : الذَّوْقُ مَسُّ الشَّيْءِ باللِّسانِ ، أو بالفَمِ يُقَالُ فيه : ذاق يَذُوقُ ذُوْقاً مثل صَامَ ، يَصُومُ صَوْماً ، ونَامَ يَنَامُ نَوْماً .
وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البُرَّ قَصْداً إلى معرفة طعمه ، ولولا أنَّهُ تعالى ذكر في آية أخرى أنَّهُمَا أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدُلُّ على الأكل ؛ لأنَّ الذَّائِقَ قد يكونُ ذَائِقاً من دون أكل .
قوله : { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } أي ظهرت عَوْرَتُهُمَا وزال اللِّبَاسُ عنهما .
روي عن ابن عباس أنَّهُ قال : قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة وظهرت لهما عورتهما ، وتهافت لباسهما حتى أبْصَر كُلُّ واحدٍ منهما ما وُوْرِيَ عنه من عَوْرَةِ صَاحبهِ فكانَا لا يريان ذلك{[15933]} .
قوله " وطَفِقَا " طَفِقَ من أفعال الشُّرُوعِ كأخَذَ وجعل ، وأنْشَأ وعلَّق وهبَّ وانبرى ، فهذه تَدُلُّ على التَّلَبُّسِ بأوَّلِ الفِعْلِ ، وحكمها حكم أفْعَالِ المُقاربَةِ من كون خبرها لا يكون غلاَّ مُضَارِعاً ، ولا يجوز أن يقترن ب " أن " لمنافاتها لها ؛ لأنها للشُّروع وهو حال و " أنْ " للاستقبال ، وقد يقعُ الخبرُ جملة اسمية كقوله : [ الوافر ]
وَقَدْ جَعَلَتْ قَلُوصُ بَنِي سُهَيْلٍ *** مِنَ الأكْوَارِ مَرْتَعُهَا قَرِيبُ{[15934]}
وشرطيَّة ك " إذا " كقوله عمر : " فَجَعلَ الرَّجُلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً " .
ويقال طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها ، وطَبِقَ بالباء الموحدة أيضاً ، والألف اسمها ، و " يَخْصَفَان " خَبَرُهَا .
وقرأ أبُوا السمالِ : " وطَفَقَا " بفتح الفاء . وقرأ الزُّهْرِيُّ{[15935]} : " يُخْصِفَانِ " بضم حرف المضارعة من أخْصَفَ وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : ان يكون أفْعَلَ بمعنى فَعَلَ .
والثاني : أن تكون الهَمْزَةُ للتَّعْديَة ، والمَفْعُولُ على هذا مَحْذُوفُ ، أي : يُخْصِفَانِ أنفسهما ، أي : يَجْعلانِ أنفسَهُمَا خاصِفَيْنِ .
وقرأ الحسنُ ، والأعرجُ{[15936]} ومُجاهِدٌ وابْنُ وثَّابٍ " يَخِصِّفانِ " بفتح الياء وكسر الخاء ، والصَّاد مشدودةٌ ، والأصْلُ يَخْصِفَانِ ، فأدغمت التَّاءُ في الصَّادِ ، ثم اتْبعت الخَاءُ للصَّادِ في حركتها ، وسيأتي نظيرُ هذه القراءة في " يُونس " و " يس " نحو { يهدي } [ يونس : 35 ] و { يَخِصِّمُونَ } [ يس : 49 ] .
وروى مَحْبُوبٌ عن الحسنِ كذلك إلاَّ أنَّهُ فتح الخاء ، فلم يُتْبِعْها للصَّادِ وهي قراءةُ{[15937]} يعقوب وابْنِ بُرَيْدَةَ .
وقرأ{[15938]} عبد الله " يُخُصِّفان " بضمِّ الياءِ والخَاءِ وكسر الصَّادِ مشدودة وهي من " خَصِّفَ " بالتَّشديد ، إلاَّ أنَّهُ أتبع الخاء للياء قبلها في الحركةِ ، وهي قراءة عَسِرةُ النُّطْقِ .
ويَدُلُّ عل أنَّ أصْلها مِنْ خَصَّفَ بالتَّشديدِ قِراءةُ بعضهم " يُخَصِّفان " كذلك ، إلاَّ أنَّهُ بفتح الخاء على أصلها .
و " الخصفُ " : الخَرْزُ في النِّعالِ ، وهو وَضع طريقة على أخرى وخرْزهما ، والمِخْصَفُ : ما يُخْصَفُ به ، وهو الإشفَى .
. . . *** أنْفِهَا كالمِخْصَفِ{[15939]}
والخَصْفَةُ أيضاً : الحُلَّةُ للتَّمْر ، والخَصَفُ : الثِّيابُ الغَلِيظَةُ ، وخَصَفْتُ الخَصْفَةَ : نَسَجْتُهَا{[15940]} ، والأخْصَف : الخَصِيفُ طعام يبرق ، وأصْلُهُ أن يُوضَعَ لَبَنٌ ونحوه في الخَصْفَةِ فَيتلوَّنُ بلونها .
وقال العبَّاسُ يمدحُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : [ المنسرح ]
. . . طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي *** مُسْتَودَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ{[15941]}
يشير إلى الجَّنَّةِ أي حَيْثُ يخرز ، ويطابق بعضها فوق بعض .
قال المُفَسِّرُون : جعلا يَخْصِفَانِ ويرقعان ويلْزِقَانِ ويصلانِ عليهما من ورق الجنَّةِ ، وهو ورق التِّين حتى صار كهيئة الثَّوْبِ .
قال الزَّجَّاجُ{[15942]} : يجعلان ورقةً على ورقةٍ لِيَسْتُرا سَوْءَاتِهِمَا .
وروى أبَيُّ بنُ كعبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان آدَمُ طوالاً كأنَّهُ نَخْلَةٌ سحوق{[15943]} كثيرة شَعْرِ الرَّأسِ ، فلما وقع بالخطيئة بَدَتْ له سوأته ، وكان لا يراها فانْطَلَقَ هَارِباً في الجنَّةِ ، فعرضت له شجرةٌ من شجر الجنَّةِ فحبسته بشَعْرِهِ فقال لها أرسِلِيني ؛ قالت : لَسْتُ بِمُرْسِلَتكَ ، فَنَادَاهُ ربُّهُ : يا آدمُ أين تَفِرُّ قال : لا يَا رَب ، ولكني استحييتك{[15944]} "
وفي الآية دليل على أنَّ كَشْفَ العَوْرَةِ قبيحٌ من لدن آدم ، ألا تَرَى أنَّهُُما كيف بادرا إلى السَّتْرِ ، لما تقرَّر في عقلهما من قُبْحِ كَشْفِ العورة .
قوله : " عليهما " قال أبُو حيَّان{[15945]} : الأَوْلى أن يعود الضَّمِيرُ في " عليهما " على عَوْرَتَيْهِمَا ، كَأنَّهُ قيل : يَخْصِفَانِ على سَوأتيهما ، وعاد بضمير الاثنين ؛ لأنَّ الجمع يُرَادُ به اثنان .
ولا يَجُوزُ أن يعود الضَّميرُ على آدَمَ وحوَّاءَ ؛ لأنَّهُ تَقرَّرَ في علم العربيَّةِ أنَّهُ لا يتعدَّى من فعل الظَّاهِر والمُضْمَرِ المتَّصل إلى الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب لفظاً أو مَحَلاًّ في غير باب " ظَنّ " ، و " قَعَدَ " و " عَدمَ " ، و " وَجَد " لا يجُوزُ زيد ضربه ، ولا ضَرَبَهُ زيد ، ولا زَيْدٌ مَرَّ به ، ولا مَرَّ به زيدٌ ، فلو جعلنا الضَّمِيرَ في " عَلَيْهِمَا " عائداً على آدم وحوَّاءَ لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي يَخْصِفُ إلى الضَّميرِ المنصوب مَحَلاًّ ، وقد رفع الضَّمير المتَّصِل ، وهو الألف في " يَخْصِفَانِ " ، فإن أخِذَ ذلك على حَذْفِ مُضافٍ مراد ؛ جَازَ ذلك ، تقديره : يَخْصِفانِ على بَدَنَيْهِمَا .
قال شهابُ الدِّين{[15946]} : ومثل ذلك فيما ذكر { وهزّي إِلَيْكِ } [ مريم : 25 ] . { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] .
هَوِّنُ عليْكَ فإنَّ الأمُورَ *** بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا{[15947]}
دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَرَاتِهِ *** ولكِنَ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ{[15948]}
قوله : " مِنْ وَرَقِ " يحتملُ وَجْهَيْنِ :
أن تكون " مِن " لابتداء الغايةِ وأن تكون للتَّبعيضِ .
و " نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا " لم يصرِّحْ هنا باسم المنادى للعلم به .
وقوله : " أَلَمْ أنْهَكُمَا " يجوزُ أن تكون هذه الجُمْلَةُ التقديريَّةُ مفسِّدة للنداء لا محلّ لها ويحتمل أن يكُونَ ثَمَّ قول مَحْذُوفٌ ، هي مَعْمُولَةٌ له أي : فقال : لم أنْهَكُمَا .
وقال بعضَهُم : هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بقولٍ مُقدَّرٍ ذلك القَوْلُ حال تقديره : وناداهما قَائِلاً ذلك .
و " لَكُمَا " متعلِّقٌ ب " عَدُوّ " لما فيه من معنى الفِعْل ، ويجوز أن تكون متعلِّقة بمَحْذُوفٍ على أنها حالٌ من " عَدٌوِّ " ؛ لأنَّهَا لو تأخّرَتْ لجاز أن تكون وصفاً له .
معنى قوله : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } يعني : عن الأكْلِ منها وأقل لَكُمَا : إنَّ الشَّيْطانَ لكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ .
قال ابن عبَّاس : بيَّن العداوة حَيْثٌ أبي السُّجُود وقال : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } .