ثم أوعده فقال :{ سنسمه على الخرطوم } و { الخرطوم } : الأنف . قال أبو العالية ومجاهد : أي نسود وجهه ، فنجعل له علماً في الآخرة يعرف به ، وهو سواد الوجه . قال الفراء : خص الخرطوم بالسمة ، فإنه في مذهب الوجه ، لأن بعض الشيء يعبر به عن كله . وقال ابن عباس : سنخطمه بالسيف ، وقد فعل ذلك يوم بدر . وقال قتادة : سنلحق به شيئاً لا يفارقه . تقول العرب للرجل سب الرجل سبة قبيحة : قد وسمه ميسم سوء . يريد : ألصق به عاراً لا يفارقه ، كما أن السمة لا تنمحي ولا يعفو أثرها ، وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة ، كالوسم على الخرطوم . وقال الضحاك والكسائي : سنكويه على وجهه .
ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار ، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين ؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه . . ويسمع وعد الله القاطع :
ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري . . ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه ! والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال : أنف أشم للعزيز . وأنف في الرغام للذليل . . أي في التراب ! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه ، إذا غضب معتزا . ومنه الأنفة . . والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير . . الأولى الوسم كما يوسم العبد . . والثاني جعل أنفه خرطوما كخرطوم الخنزير !
وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصما . فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر - ولو بالباطل - مذمة يتوقاها الكريم ! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض . بهذا الأسلوب الذي لا يبارى . في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود . ثم يستقر في كيان الوجود . . في خلود . .
إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم . .
وقوله تعالى : { سنسمه على الخرطوم } معناه على الأنف قاله المبرد ، وذلك أن { الخرطوم } يستعار في أنف الإنسان . وحقيقته في مخاطم السباع ، ولم يقع التوعد في هذه الآية ، بأن يوسم هذا الإنسان على أنفه بسمة حقيقة ، بل هذه عبارة عن فعل يشبه الوسم على الأنف . واختلف الناس في ذلك الفعل ، فقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف ، أي يضرب في وجهه وعلى أنفه ، فيجيء ذلك الوسم على الأنف ، وحل ذلك به يوم بدر . وقال محمد بن يزيد المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم ، وهو تعذيب بنار على أنوفهم . وقال آخرون ذلك في يوم القيامة ، أي يوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره . وقال قتادة وغيره معناه : سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والإشهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به ، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً ، وهذا المعنى كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة ، أي أثبت لك الأمر بيناً فيك ، ونحو هذا أراد جرير بقوله : [ الكامل ]
لما وضعت على الفرزدق ميسمي{[11246]} . . . وفي الوسم على الأنف تشويه ، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جداً . وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأحدوثة ، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم .
استئناف بياني جواباً لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصفوا بها أن يسأل السامع : ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربِّهم .
وضمير المفرد الغائب في قوله : { سنسمه } عائد إلى كُل حلاّف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه { كلَّ } [ القلم : 10 ] من الصفات التي جاءت بحالة الإِفراد .
والمعنى : سنسم كل هؤلاء على الخراطيم ، وقد علمت آنفاً أن ذلك تعريض بمعيّن بصفة قوله : { أساطير الأولين } [ القلم : 15 ] وبأنه ذو مال وبنين .
و { الخرطوم } : أريد به الأنف . والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل . وقد خلط أصحاب اللّغة في ذكر معانيه خلطاً لم تتبين منه حقيقته من مجازه .
وذكر الزمخشري في « الأساس » معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي ، وانبهم كلامه في « الكشاف » إلاّ أن قوله فيه : وفي لفظ { الخُرطوم } استخفاف وإهانة ، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإِنسان مجاز مرسل ، وجزم ابن عطية : أن حقيقة الخرطوم مَخْطَمِ السَبع أي أنف مثل الأسد ، فإطلاق الخرطوم على أنف الإِنسان هنا استعارة كإِطلاق المِشفر وهو شفة البعير على شفة الإِنسان في قول الفرزدق :
فلو كنتَ ضبيّاً عرفتَ قرابتي *** ولكنَّ زنجيّ غَليظُ المشافر
وكإطلاق الجحفلة على شفة الإِنسان ( وهي للخيل والبغال والحمير ) في قول النابغة يهجو لبيد بنَ ربيعة :
ألا مَن مبلغٌ عني لبيداً *** أبا الوَرداء جَحْفَلةَ الأَتان
والوسم للإبل ونحوها ، جعل سِمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعيَّن .
فالمعنى : سنعامله معاملةً يُعرف بها أنه عبدُنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئاً .
فالوسم : تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه .
وأصل ( نسمه ) نَوْسِمه مثل : يَعِد ويَصِل .
وذِكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإِهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونَه في الوجه إذلالاً وإهانة ، وكونه على الأنف أشد إذلالاً ، والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه ، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفَس ، ولذلك غلَب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم : شمخ بأنفه ، وهُو أشمّ الأنف ، وهُم شمّ العرانين ، وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف ، وجَدْعِه ، ووقوعه في التراب في قولهم : رَغِم أنفه ، وعلَى رغْم أنفه ، قال جرير :
لما وَضَعْت على الفرزدق ميسَمي *** وعلى البعيث جَدَعْتُ أنفَ الأخطل
ومُعظم المفسرين على أن المعنيَّ بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة . وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله : { سنسمه على الخرطوم } هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار . يريد : ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة .
وعن ابن عباس معنى { سنسمه على الخرطوم } سنخطمه بالسيف قال : وقد خُطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوماً إلى أن مات ولم يعيّن ابن عباس من هو .
وقد كانوا إذا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرؤوس . قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيتُ العباس لألجمنَّه السيفَ ، فقال رسول الله : « يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟ » .
وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله : { يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه } [ آل عمران : 106 ] وجعل تشويهه يومئذٍ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء ، وقد كان الأنف مظهر الكِبر ولذلك سمي الكِبر أنفة اشتقاقاً من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه .