البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{سَنَسِمُهُۥ عَلَى ٱلۡخُرۡطُومِ} (16)

وسمه : جعل له سمة ، وهي العلامة تدل على شيء . قال جرير :

لما وضعت على الفرزدق ميسمي *** وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

الخرطوم : الأنف ، والخرطوم من صفات الخمر ، قال الشاعر :

قد أشهد الشرب فيهم مزهر زنم *** والقوم تصرعهم صهباء خرطوم

قال الشمنتري : الخرطوم أول خروجها من الدّن ، ويقال لها الأنف أيضاً ، وذلك أصفى لها وأرق . وقال النضر بن شميل : الخرطوم : الخمر ، وأنشد للأعرج المغني :

تظل يومك في لهو وفي لعب *** وأنت بالليل شراب الخراطيم

ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال : { سنسمه على الخرطوم } ، والسمة : العلامة .

ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان ، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة وقالوا : حميّ الأنف شامخ العرنين .

وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه .

وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلو ،

قال : { سنسمه على الخرطوم } ، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد ، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف ، وإذا كان الوسم في الوجه شيناً ، فكيف به على أكرم عضو فيه ؟ وقد قيل : الجمال في الأنف ، وقال بعض الأدباء :

وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل *** فكيف إذا ما الخال كان له حليا

وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه .

وقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف ، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه ، فيجيء ذلك كالوسم على الانف ، وحل به ذلك يوم بدر .

وقال المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم ، وهو تعذيب بنار على أنوفهم .

وقال آخرون : ذلك يوم القيامة ، أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره .

وقال قتادة وغيره : معناه سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به ، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً ، كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة : أي أثبت لك الأمر بيناً فيك ، ونحو هذا أراد جرير بقوله :

لما وضعت على الفرزدق ميسمي . . .

وفي الوسم على الأنف تشويه ، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّاً .

قال ابن عطية : وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه ، وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأخروية ، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم . انتهى .

وقال أبو العالية ومقاتل ، واختاره الفراء : يسود وجهه قبل دخول النار ، وذكر الخرطوم ، والمراد الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض .

وقال أبو عبد الله الرازي : إنما بالغ الكافر في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الأنفة والحمية ، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية ، عبر عن هذا الاختصاص بقوله : { سنسمه على الخرطوم } .

انتهى كلامه .

وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف ، لأن حقيقة الخرطوم هو للسباع .

وتلخص من هذا أن قوله : { سنسمه على الخرطوم } ، أهو حقيقة أم مجاز ؟ وإذا كان حقيقة ، فهل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر ، وأن معناه سنحده على شربها .