قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } . أي بقاء ، وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل يقتل يمنع عن القتل ، فيكون بقاؤه وبقاء من هم بقتله ، وقيل في المثل : القتل أنفى للقتل . وقيل : معنى الحياة سلامته من قصاص الآخرة ، فإنه إذا اقتص منه حيي في الآخرة وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة .
قوله تعالى : { يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . أي تنتهون عن القتل مخافة القود .
ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة :
( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) . .
إنه ليس الانتقام ، وليس إرواء الأحقاد . إنما هو أجل من ذلك وأعلى . إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة . . ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله . .
والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء . فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل . . جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد . كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل . شفائها من الحقد والرغبة في الثأر . الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم . وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم ، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل . .
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم . فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها ، واعتداء على كل إنسان حي ، يشترك مع القتيل في سمة الحياة . فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة ، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها . وكان في هذا الكف حياة . حياة مطلقة . لا حياة فرد ، ولا حياة أسرة ، ولا حياة جماعة . . بل حياة . .
ثم - وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه :
هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء . الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيرا . . التقوى . . حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله ؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه .
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان !
وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي [ ص ] وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوبا باعتراف الجاني نفسه طائعا مختارا . . لقد كانت هنالك التقوى . . كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود . . إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب . . وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور . نظيف الحركة نظيف السلوك . لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير !
" حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون ، تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة ، ووخزا لاذعا للضمير ، وخيالا مروعا ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئنا مرتاحا ، تفاديا من سخط الله ، وعقوبة الآخرة .
{ ولكم في القصاص حياة } كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده ، وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل ، فيكون سبب حياة نفسين . ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم . فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم . وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثاني تخصيص .
وقيل : المراد بها الحياة الأخروية ، فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة . { ولكم في القصاص } يحتمل أن يكونا خبرين لحياة وأن يكون أحدهما خبرا والآخر صلة له ، أو حالا من الضمير المستكن فيه . وقرئ في " القصص " أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة ، أو في القرآن حياة للقلوب . { يا أولي الألباب } ذوي العقول الكاملة . ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس . { لعلكم تتقون } في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له ، أو عن القصاص فتكفوا عن القتل .
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )
وقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } نحوه( {[1626]} ) قول العرب في المثل : القتل أوقى للقتل ، ويروى : أبقى ، بباء وقاف .
ويروى أنفى بنون وفاء( {[1627]} ) ، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً ، وهذا الترتيب ما سبق لهما في الأزل( {[1628]} ) ، وأيضاً فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة ، وخص { أولي الألباب } بالذكر تنبيهاً عليهم ، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي ، وغيرهم تبع لهم ، و { تتقون } معناه القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة ، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي «ولكم في القصص »( {[1629]} ) أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه ، ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي إنه قص أثر القاتل قصصاً فقتل كما قتل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.