ولما كانت الآية مشتملة على إيلام العبد الضعيف ، وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله : { ولكم في القصاص حياة } . قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة ، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة . وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ، ويحتمل أن يقال : نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل ، فكان القصاص سبب حياة نفسين . وقرأ أبو الجوزاء { ولكم في القصص حياة } أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص . وقيل : القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب . هذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه { ولكم في القصاص حياة } بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز ، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم " قتل البعض أحياء للجميع " وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم " القتل أنفى للقتل " . والترجيح مع ذلك للآية من وجوه : الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلماً ليس أنفى للقتل قصاصاً بل أدعى له . ولو خصص فقيل " القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً " طال . والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف . الثاني : أن القتل قصاصاً لا ينفي القتل ظلماً من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص . وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم . الثالث : أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة . فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى . الرابع : التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية . الخامس : أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة ، وفي كلامهم أربعة عشر . السادس : أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب ، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة . السابع : ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال ، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سبباً لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير . الثامن : المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم . التاسع : اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة ، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم . العاشر : اشتمال الآية على اسمين وأداة ، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة . وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان ، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها ، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن . فتقدير كلامهم " القتل أنفى للقتل من كل شيء " فأين الوجازة { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه ، وواحده ذو بمعنى صاحب . وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى { وأولات الأحمال } [ الطلاق : 4 ] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم . وزادوا في " أولي " واواً فرقاً بينها وبين " إلى " وأجرى " أولو " عليه . واللب العقل ، ولب النخلة قلبها ، وخالص كل شيء لبه . خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله { لعلكم تتقون } يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته ، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به . وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص . عن الحسن والأصم : وقد بقي على الآية بحث ، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر ، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفاً عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته ، فكيف يفيد شرع القصاص حياة ؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سبباً يدور مسببه معه وجوداً وعدماً . وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سبباً لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله ، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به . ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها . وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.