غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

178

ولما كانت الآية مشتملة على إيلام العبد الضعيف ، وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله : { ولكم في القصاص حياة } . قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة ، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة . وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ، ويحتمل أن يقال : نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل ، فكان القصاص سبب حياة نفسين . وقرأ أبو الجوزاء { ولكم في القصص حياة } أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص . وقيل : القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب . هذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه { ولكم في القصاص حياة } بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز ، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم " قتل البعض أحياء للجميع " وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم " القتل أنفى للقتل " . والترجيح مع ذلك للآية من وجوه : الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلماً ليس أنفى للقتل قصاصاً بل أدعى له . ولو خصص فقيل " القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً " طال . والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف . الثاني : أن القتل قصاصاً لا ينفي القتل ظلماً من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص . وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم . الثالث : أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة . فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى . الرابع : التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية . الخامس : أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة ، وفي كلامهم أربعة عشر . السادس : أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب ، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة . السابع : ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال ، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سبباً لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير . الثامن : المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم . التاسع : اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة ، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم . العاشر : اشتمال الآية على اسمين وأداة ، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة . وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان ، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها ، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن . فتقدير كلامهم " القتل أنفى للقتل من كل شيء " فأين الوجازة { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه ، وواحده ذو بمعنى صاحب . وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى { وأولات الأحمال } [ الطلاق : 4 ] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم . وزادوا في " أولي " واواً فرقاً بينها وبين " إلى " وأجرى " أولو " عليه . واللب العقل ، ولب النخلة قلبها ، وخالص كل شيء لبه . خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله { لعلكم تتقون } يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته ، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به . وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص . عن الحسن والأصم : وقد بقي على الآية بحث ، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر ، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفاً عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته ، فكيف يفيد شرع القصاص حياة ؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سبباً يدور مسببه معه وجوداً وعدماً . وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سبباً لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله ، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به . ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها . وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم .

/خ179