فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

{ ولكم في القصاص حياة } خطاب لمريدي القتل ظلما . وقال أبو السعود : بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تنال غايته ، حيث جعل الشيء وهو القصاص محلا لضده وهو الحياة ، ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس نوعا من الحياة عظيما لا يبلغه الوصف ، وذلك لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد فتنشر الفتنة بينهم ، ففي شرع القصاص سلامة من هذا كله{[162]} . والمعنى لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله بقاء وحياة ، لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر كف عن القتل وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه ، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية .

وهذا نوع من البلاغة بليغ ، وجنس من الفصاحة رفيع ، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة ، باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم ، وقيل إن الحياة سلامة من القصاص في الآخرة ، فإنه إذا اقتص في الدنيا لم يقتص عنه في الآخرة والأول أولى .

وقال الخازن : هذا الحكم غير مختص بالقصاص الذي هو القتل ، بل يدخل فيه جميع الجروح والشجاج وغير ذلك ، وقرأ أبو الجوزاء { ولكم في القصص حياة } أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة أو في كتاب الله أي نجاة ، وقيل أراد حياة القلوب ، وقيل هو مصدر بمعنى القصاص . والكل ضعيف والقراءة به منكرة . { يا أولي الألباب } أي ذوي العقول الكاملة ، جعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب ، وناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه الضرر الآجل ، وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ، ولا يفكر في أمر مستقبل ، والألباب جمع لب ، وهو العقل الخالي من الهوى ، سمي بذلك لأحد وجهين ؛ إما لبنائه من لب بالمكان أقام به ، وإما من اللباب وهو الخالص .

ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله { لعلكم تتقون } أي تعملون عمل أهل التقوى ، وتتحامون القتل بالمحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له ، فيكون ذلك سببا للتقوى .


[162]:عن مسلم ابن يزيد أحد بني سعد ابن بكر أنه سمع أبا شريح الخزاعي ثم الكعبي وكان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قتال بني بكر حتى أصبنا منهم ثأرنا وهو بمكة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نوافع السيف فلقي رهط منا الغد رجلا من هذيل في الحرم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يسلم وكان قد وترهم في الجاهلية وكانوا يطلبونه فقتلوه وبادروا أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا والله ما رأيته غضب غضبا اشد منه فسعينا إلى أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم نستشفعهم وخشينا أن نكون قد هلكنا فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قام فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن الله عز وجل هو حرم مكة ولم يحرمها الناس وإنما أحلها لي ساعة من النهار أمس وهي اليوم حرام كما حرمها الله عز وجل أول مرة وإن أغنى الناس على الله عز وجل ثلاثة رجل قتل فيها ورجل قتل غير قاتله ورجل طلب بذحل في الجاهلية وإني والله لأدين هذا الرجل الذي قتلتم فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم.