الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

قوله : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يجوزُ أنْ يَكُونَ " لكم " الخبر ، وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه " لكم " ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من " حياةٌ " ، لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً ، ويجوزُ أن يكونَ " في القصاص " هو الخبرَ ، و " لكم " متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ : { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } [ البقرة : 36 ] ، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا .

وقرأ أبو الجوزاء " في القَصَص " والمرادُ به القرآنُ . قال ابن عطية : " ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص ، أي إنه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل " .

والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي : تَتَبَّع ، وهذا أصلُ المادة ، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد ، ومنه " القصيص " لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ ، ومنه الحديث :

" نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ " أي تَجْصيصِها .

ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب : " القتلُ أَوْفَى للقتل " ويُرْوى أَنْفَى للقتل ، ويُرْوَى : أَكفُّ للقتَل . وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه ، منها : أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ . ومنها : أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ " أَنْفَى " و أَوْفَى " و " أكفُّ " أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه ، أي : أنفى للقتل مِنْ ترك القتل . ومنها : أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف . والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس . ومنها : أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه . ومنها : أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى : { أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم : 43 ] قوله : { يأُولِي الأَلْبَابِ } منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ . واعلم أن " أولي " اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو " ذو " من غير لفظِه . ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها ، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه . وقد تقدَّم في قولِه : { ذَوِي الْقُرْبَى } [ البقرة : 177 ] ويقابِلُه في المؤنث : أُولات : وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا : لِيُفَرِّقوا بين " أُولي كذا " في النصبِ والجر وبين " إلى " التي هي حرفُ جر ، ثم حُمِل باقي الباب عليه ، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين " أولئك " اسمَ إشارةٍ و " إليك " جاراً ومجروراً وقد تقدَّم . وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت : جاء أُلون ورأيت إلين ، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ : ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ .

والألبابُ جمعُ " لُبٍّ " وهو العقلُ الخالي من الهَوي ، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين : إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به ، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ ، يقال : لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها ، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين ، وذلك في ألفاظ محصورة نحو : عَزُزْتُ/ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ ، فهذه بالضمِّ وبالفتح ، إلا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم .