البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

أولوا : من الأسماء التي هي في الرفع بالواو ، وفي الجرّ والنصب بالياء .

ومعنى أولوا : أصحاب ، ومفرده من غير لفظه ، وهو ذو بمعنى : صاحب .

وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ ، ومؤنثه أولات بمعنى : صاحبات ، وإعرابها كإعرابها ، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة ، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر ، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف ، ولو سميت باولوا ، زدت نوناً فقلت : جاء من أولون ، ورأيت أولين ، ومررت بأولين ، نص على ذلك سيبويه ، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل الإضافة .

كما تقول : ضاربو زيد ، وضاربين زيداً .

الألباب : جمع لب ، وهو العقل الخالي من الهوى ، سمى بذلك ، إما لبنائه من قولهم : ألبّ بالمكان ، ولبّ به : أقام ، وإما من اللباب ، وهو الخالص .

وهذا الجمع مطرد ، أعني أن يجمع فعل اسم على أفعال ، والفعل منه على فعل بضم العين وكسرها ، قالوا : لببت .

ولبيت ومجيء المضاعف على فعل بضم العين شاذ ، استغنوا عنه بفعل نحو : عزّ يعزّ ، وخفّ يخفّ .

فما جاء من ذلك شاذاً : لبيت ، وسررت ، وفللت ، ودممت ، وعززت .

وقد سمع الفتح فيها إلا في : لبيت ، فسمع الكسر كما ذكرنا .

{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } الحياة التي في القصاص هي : أن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ ، أمسك عن القتل ، فكان ذلك حياة له ، والذي امتنع من قتله ، فمشروعية القصاص مصلحة عامة ، وإبقاء القاتل والعفو عنه مصلحة خاصة به ، فتقدّم المصلحة العامة لتعذر الجمع بينهما .

أو المعنى : ولكم في شرع القصاص حياة ، وكانت العرب إذا قتل الرجل حمى قبيلة أن تقتص منه ، فيقتتلون ، ويقضي ذلك إلى قتل عدد كثير ، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود ، وصالحوا على الدية وتركوا القتال ، فكان لهم في ذلك حياة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل .

وقيل : حياة لغير القاتل ، لأنه لا يقتل غير خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية .

وقيل : حياة للقاتل .

وقيل : حياة لارتداع من يهم به في الآخرة إذ استوفى منه القصاص في الدنيا فإنه في الآخرة لا يقتص منه ، وإن لم يقتص اقتص منه في الآخرة .

فلا تحصل له تلك الحياة التي حصلت لمن اقتص منه .

وقرأ أبو الجوزاء ، أوس بن عبد الله الربعي : ولكم في القصص ، أي : فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص ، وقيل : القصص : القرآن ، أي : لكم في القرآن حياة القلوب ، كقوله : { روحاً من أمرنا } وكقوله : { أو من كان ميتاً فأحييناه }

وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي : أنه إذا قص أثر القاتل قصصاً قتل كما قتل .

وقال الزمخشري : { ولكم في القصاص حياة } كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف ، القصاص ، وتنكير : الحياة ، لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، أو نوع من الحياة ، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل .

لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، انتهى كلامه .

وقالت العرب فيما يقرب من هذا المعنى : القتل أوقى للقتل ، وقالوا : أنفى للقتل ، وقالوا : أكف للقتل .

وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه .

أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سبباً لانتفاء نفسه ، وهو محال .

الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة .

الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفى للقتل .

الرابع : أن القتل ظلماً هو قتل ، ولا يكون نافياً للقتل .

وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك .

أما في الوجه الأول : ففيه أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة ، لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص ، اتضح كون شرع القصاص سبباً للحياة .

وأما في الوجه الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف ، لأن في كلام العرب كما قلناه تكراراً للفظ ، والحذف إذا نفي ، أو أكف ، أو أوفى ، هو افعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفى للقتل من ترك القتل .

وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل ، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس ، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة .

وأما في الوجة الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق ، فترتب على مشروعيته وجود الحياة .

ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى الطباق ، وهو شبه قوله تعالى : { وأنه هو أمات وأحيى } وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم ، وهو في موضع الخبر ، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة ، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة ، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة ، وهي مشروعية القصاص ، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب القائلون لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، وهم الذين خصهم الله بالخطاب ، { إنما يتذكر أولوا الألباب } { لآيات لقوم يعقلون } { لآيات لأولي الألباب } { لآيات لأولي النهى } { لذكرى لمن كان له قلب } وذوو الالباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف ، فلهذا خص به ذوي الألباب .

{ لعلكم تتقون } أي : القصاص ، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذراً من القصاص أو الانهماك في القتل ، أو تتقون الله باجتناب معاصيه ، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة أقوال خمسة ، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص .

/خ182