تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

{ ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب لعلكم تتقون } .

قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة ، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء ، فالمراد : لكم في شرع القصاص حياة ، وأي حياة ، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل ، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله( 45 ) ويحتمل أن يقال إن نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي حاصلة بالارتداع عن القتل لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين( 46 ) .

وقرأ أبو الجوزاء : { ولكم في القصاص حياة } . أي فيما قص عليكم كم حكم القتل والقصاص ، وقيل القصص : القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب .

والمتأمل في بلاغة الآية ومكانها مما قبلها يرى أن وقع لآية وجميل بيانها يتحقق بكلمة القصاص دون كلمة القصص ، ويرى أن الحياة تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء .

فالذي يوقن أنه سيدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد . كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل . شفاؤها من الحقد والرغبة في الثأر . الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية ، حتى لتدوم المعارك المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم . وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم ، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل .

وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم . فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها ، واعتداء على كل إنسان حي ، يشترك مع القتيل في سمة الحياة ، فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها . وكان في هذا الكف حياة ، حياة مطلقة لا حياة فرد ولا حياة أسرة ولا حياة جماعة . بل حياة .

{ لعلكم تتقون } . أي تحذرون القتل لخوف القصاص .

وقال النيسابوري : لعلكم تتقون . يتعلق بمحذوف ، أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالحكام وولاة الأمور( 47 ) .

وقال ألإمام محمد عبده معناه : " ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء وسائر ضروب الاعتداء ، إذ العاقل حريص على الحياة ، ولوع بالأخذ بوسائلها ، والاحتراس من غوائلها " .

حكمة التشريع الإسلامي في القصاص( 49 ) :

جعلت الشريعة القصاص عقوبة للقتل العمد والجرح العمد ، ومعنى القصاص أن يعاقب المجرم بمثل فعله فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح .

ومصدر عقوبة القصاص هو القرآن والسنة ، فالله عز وجل يقول : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى . . . إلى آخر الآيتين178-179 من سورة البقرة .

ويقول جل شأنه : { وكتبنا عليكم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } . ( المائدة : 45 ) .

وفي السنة " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا فالقود وإن أحبوا فالقتل " أي الدية .

وفي السنة " من اعتبط مؤمنا بقتل فهو قود به إلا أن يرضى ولي المقتول " .

وليس في العلم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص فهو أعدل العقوبات ، إذ لا يجازى المجرم إلا بمثل فعله ، وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام ، لآن المجرم حين يعلم أنه سيجازى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالبا .

والذي يدفع المجرم بصفة عامة للقتل والجرح هو تنازع البقاء وحب التغلب والاستعلاء ، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقي على نفسه بإبقائه على فريسته ، وإذا علم أنه تغلب على المجني عليه اليوم فهو متغلب عليه غدا ، لم يتطلع إلى التغلب عليه عن طريق الجريمة ، وأمامنا على ذلك الجريمة العملية نراها كل يوم ، فالرجل العصبي المزاج السريع إلى الشر وطلب الشجار إذا رأى خصمه أقوى منه أو قدر أنه سيرد على الاعتداء بمثله .

والرجل المسلح قد لا يثنيه شيء من الاعتداء ولكنه يتراجع ويتردد إذا رأى خصمه مسلحا مثله ويستطيع أن يرد على الاعتداء ، والمصارع والملاكم لا يتحدى شخصا يعلم أنه أكثر منه قوة أو مرانا أو جلدا ولكنه يتحدى بسهولة من يظنه أقل منه قوة وأضعف جلدا .

تلك هي طبيعة البشر ، وضعت الشريعة على أساسها عقوبة القصاص ، فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص دافعا نفسيا مضادا يصرف عن الجريمة ، وذلك ما يتفق تمام الاتفاق مع علم النفس الحديث .

وللمجني عليه ولوليه حق العفو والعقوبة ، والعفو قد يكون مجانا وقد يكون مقبل الدية ، ولكن سقوط عقوبة القصاص بالعفو لا يمنع ولي الأمر من أن يعاقب المجرم بعقوبة تعزيرية مناسبة .

ولقد كانت الشريعة عملية ومنطقية في منح حق العفو للمجنى عليه أو وليه لأن العقوبة فرضت أصلا لمحاربة الجريمة ، ولكنها ل تمنع وقوع الجريمة في أغلب الأحوال .

أما العفو فيؤدي إلى منع الجريمة في أغلب الأحوال ، لأنه لا يكون إلا بعد الصلح والتراضي وصفاء النفوس وخلوها من كل ما يدعو إلى الجريمة والإجرام .

فالعفو هنا يؤدي وظيفة العقوبة وينتهي إلى نهاية تعجز العقوبة عن الوصول إليها . جاء في تفسير المنار :

وقد تقع في كل بلاد العلم صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه ، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك ، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير ، بل قد تكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة أو لأن الدية أنفع لهم ، فأمثال هذه الصور توجب ألا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال بل يكون هو الأصل ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم ، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة في شعب أو قبيلة أو بلد إلى أن صار أولياء القاتل منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم .

والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه ، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن .

وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم( 50 ) .

* * *