اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (179)

اعْلَمْ أن كيفيَّة النَّظْم أَنَّهُ تعالى لما أوجب القِصَاص في الآية المتقدِّمة توجَّه أَنْ يُقالَ : كيفَ يليقُ برحمته إيلامُ العَبْد الضَّعيف ، فذكرَ عقِيبَهُ حكْمة شَرع القِصاص ؛ دفعاً لهذا السؤال .

قوله " لَكُمْ " : يجوز أن يكون الخَبَر ، و " فِي القِصَاصِ " متعلِّق بالاستقرار الَّذي تضمَّنه " لَكُمْ " ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ على أنَّه حالٌ من حياة ، لأَنَّه كان في الأَصل صفةً لها ، فلما قُدِّم عليها نصب حالاً ، ويجوزُ أن يكون " فِي القِصَاصِ " هو الخَبَر ، و " لَكُمْ " متعلِّق بالاستقرار المتضمِّن له ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله

{ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } [ البقرة : 36 ] وهناك أشياءُ لا تجيء هُنَا .

فصل في معنى كون القصاص حياةً

في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً وجوه :

أحدها : أَنَّهُ ليس المرادُ أَنَّ نَفْس القصاص حياةً ؛ لأَنَّ القصاصَ إِزالةٌ للحياةِ ، وإزالةُ الشيءِ يمتنع أَنَّ تكُون نفْسَ ذلك الشَّيءِ ، بل المراد أَنَّ شَرْع القِصَاص يُفْضِي إلى الحياة .

أَمَّا في حقِّ منَ يريدٌ القَتَلَ فإنَّهُ إذا عَلِمَ أَنَّه إذا قَتَلَ قُتِلَ تَرَكَ القَتْل ؛ فلا يقتل ، فيَبْقَى حَيًّا ، وأمَّا في حقِّ المقتول : فإنَّ مَنْ أراد قتلَه ، إذا خاف مِنَ القِصَاصِ ؛ تَرَكَ قَتلهُ فيبقَى غير مقتول ، وأمَّا في حقِّ غيرهما : فَلأَنَّ في شرع القِصَاص بقاءَ من هَمَّ بالقَتْل ومن يهمّ به ، وفي بقائهما بَقَاءُ مَنْ يتعصَّبُ لهما ؛ لأَنَّ الفِتْنَة تعظُمُ بسبَب القَتْل فتؤدِّي إلى المُحاربة الَّتي تنتهي إلى قتل عالَمٍ من النَّاس ، وفي شَرْعِ القِصَاص زوالٌ لِكُلِّ ذلك ، فيصير حياةً للكُلِّ .

وثانيها : أَنَّ نفسَ القصاص سببُ الحياة ؛ لأنَّ سَافِك الدَّم ، إِذَا أُقِيدَ{[2450]} منْه ، ارتدع مَنْ كان يهُمَّ بالقتل ، فلم يقتل ، فكان القصاص نفسُه سبباً للحياة مِنْ هذا الوجه .

وثالثها : معنى الحياة سلامتُهُ مِنْ قِصَاصِ الآخِرة ، فإِنَّهُ إذا اقتصَّ منه في الدُّنْيا ، حيي في الآخرة ، وإذا لم يقتصّ منه في الدُّنيا اقْتُصَّ منه في الآخرة وهذا الحُكْم غير مختصٍّ بالقِصَاصِ في النَّفْسِ ، بل يدخل فيه القِصاص في الجِراح والشِّجَاج .

ورابعها : قال السُّدَّيُّ : المرادُ من القِصَاصِ إيجابُ التَّوبَة .

وقرأ أبو{[2451]} الجوزاء{[2452]} في القَصَصِ والمراد به القُرآن .

قال ابنُ عطيَّة{[2453]} ويحتمل أن يكون مَصْدراً كالقِصاصِ ، أي أَنَّهُ إذا قُصَّ أثَرُ القاتلِ قَصَصاً ، قُتِل .

ويحتمل أن يكون قوله : { فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي فيما أَقُصُّ عليكُمْ مِنْ حُكْم القَتْل والقِصَاصِ .

فصل في الردِّ على احتجاج المعتزلة بالآية

قالت المعتزلة : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ القِصَاصِ سببٌ للحياة ؛ لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأُولِي الأَلْبَابِ } ، فدَلَّ ذلك على أَنَّهُ لو لم يُشْرع القِصَاصُ ، لكان ذلك سبباً للموت قبل حلول وَقْتِهِ ، وكذلك كلُّ ما نتج من الحيوان ، فإنَّ هلاكه قَبْلَ أجلِهِ ؛ بدليل أنَّهُ يجب على القاتِلِ الضَّمانُ والدِّية .

وأجيب بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [ آل عمران : 145 ] وقوله : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] فمتى قتل العبد علمنا أَنَّ ذلك أجلُهُ{[2454]} ، ولا يصحُّ أن يقال : إِنَّه لو لم يُقْتَلُ ، لعاش ؛ لما ذكرنا من الآيات .

أمَّا وجوب الضمان والدِّية ، فللإقدام على القَتْل وللزجر عن الفِعْل .

فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة

اتفق علماءُ البَيَانِ على أَنَّ هذه الآية في الإيجازِ مع جميع المعاني باللّغةِ بالغةٌ أعلى الدَّرجَاتِ ؛ فإنَّه قولَ العَرَبِ في هذا المعنى " القَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ " ، ويروى " أَنْفَى لِلْقَتْل " ، ويروَى " أَكَفُّ لِلْقَتْلِ " ، ويروى " قَتْلُ البَعْضِ أَحْيَا الجَمِيع " ، ويروى : " أَكْثِروا القَتْلَ ليقلَّ القَتْلُ " فهذا وإن كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العُلماءُ بَيْنه وبيْنَ الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغة ، وُجدت في الآية الكريمة دونه :

منْها : أَنَّ في قولِهِم تكرارَ الاسم في جُمْلةٍ واحدةٍ .

ومنها : أَنَّهُ لا بدَّ مِنْ تقدير حَذْفٍ ؛ لأنَّ " أَنْفَى " و " أَوقَى " و " أَكَفُّ " أفعل تفضيل فلا بدَّ من تقدير المفضَّل عليه ، أي : أنفى لِلْقتلِ مِنْ تركِ القتل .

ومنها : أنَّ القِصَاص أَعَمُّ ؛ إِذ يوجد في النَّفْس وفي الطَّرف ، والقتلُ لا يكون إلاَّ في النَّفسِ .

ومنها : أَنَّ ظاهر قولهم كونُ وجود الشيء سَبَباً في انتفاءِ نفسه .

ومنها : أَنَّ في الآية نَوعاً من البديع يُسمَّى الطبَاقَ ، وهو مقابلةُ الشيءِ بضدِّه ، فهو يُشبه قوله تعالى :

{ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم : 43 ] .

قوله : { يا أُولِي الأَلْبَابِ } منادًى مضافٌ وعلامة نصبه الياءُ ، واعلم أنَّ " أُولِي " اسمُ جَمع ؛ لأَنَّ واحده ، وهو " ذُو " من غَير لفظه ، ويجري مَجرى جمع المذكَّر السَّالم في رفعه بالواو ونصبه وجرِّه بالياء المكسور ما قبلها ، وحُكمه في لُزُوم الإضافة إلى اسم جنسٍ حكمُ مفردِهِ ، وقد تقَدَّمَ في قوله تعالى : { ذَوِي الْقُرْبَى }[ البقرة : 177 ] ويقابلُهُ في المؤنث " أُولاَت " وكتبا في المُصْحف بواوٍ بعد الهمزة ؛ قالوا : ليفرِّقوا بين " أُولِي كَذَا " في النَّصْب والجَرِّ ، وبين " إِلَى " الَّتي هي حرفُ جرٍّ ، ثم حمل باقي البَابِ علَيْه ، وهذا كما تقدَّمَ في الفَرق بين " أُولَئِكَ " اسْمَ إشارةٍ ، و " إِلَيْكَ " جاراً ومجروراً وقد تقدَّم ، وإذا سَمَّيْتَ ب " أولى " ، من " أُولِي كَذَا " قلت : " جَاءَ أُلُونَ ، وَرَأَيْتَ أُلِينَ " بردِّ النُّون ؛ لأَنَّها كالمقدَّرة حالة الإضافة ، فهو نظيرُ " ضَارِبُوا زَيْجٍ وَضَارِبي زَيْدٍ " .

والأَلبَابُ : جمع لُبٍّ ، وهو العقلُ الخالي من الهوَى ؛ سمِّي بذلك لأحَدِ وَجهين :

إما لبنائِهِ مِنْ لَبَّ بالمَكَانٍ : أَقَامَ به وإِمَّا من اللُّبَابِ ، وهو الخَالِص ؛ يقال : لَبُبْتُ بالمكان ، ولَببْتُ بضمِّ العين ، وكسرها ، ومجيء المضاعف على " فَعُلٍ " بضم العَين شاذٌّ ، استغنَوْا عنه ب " فَعَلَ " مفتوح العين ؛ وذلك في أَلفاظ محصورةٍ ؛ نحو عَزُزْتُ ، وسَرُرْتُ ، ولَبُبْبُ ، ودَمُمْتُ ، ومَلُلْتُ فهذه بالضمِّ وبالفَتْح ، إلاَّ " لَبُبْتُ " فبالضمِّ والكَسْر ؛ كما تقدَّم .

قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } : قال الحسن والأصمُّ : لعلَّكمْ تَتَّقُونَ نفْس القَتْل{[2455]} ؛ بخَوف القِصَاصِ{[2456]} .

وقيل : المرادُ هوالتقْوَى من كُلِّ الوُجُوه .

قال الجُبَّائِيُّ{[2457]} : هذا يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى أراد التَّقْوى مِنَ الكُلِّ ، سواءٌ كان في المعْلُوم أنهم يَتَّقُونَ أَوْ لاَ يَتَّقُون بخلاف قول المُجْبِرَةِ ، وقد سَبَق جوابُه .

فإِن قيل " لَعلَّ " للتَّرَجِّي ، وهو في حقِّ اللَّهِ تعالى محالٌ ، فجوابهُ مَا سَبَقَ في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

[ البقرة : 21 ] .


[2450]:- في ب: افتقى.
[2451]:- انظر: الشواذ "11".
[2452]:- أوس بن عبد الله الربعي بفتح الراء والموحدة أبو الجوزاء بجيم ثم زاي بعد الواو البصري عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس. وعنه بديل بن ميسرة وقتادة ومحمد بن جحادة. وثقه أبو حاتم قال عمرو بن علي: مات سنة ثلاث وثمانين. ينظر الخلاصة 1/106.
[2453]:- ينظر: المحرر الوجيز 1/247.
[2454]:- مختار أهل السنة: وجوب اعتقاد أن الأجل بحسب علم الله تعالى واحد لا تعدد فيه، وأن كل مقتول ميت بسبب انقضاء عمره، وعند حضور أجله في الوقت الذي علم الله في الأزل حصول موته فيه؛ بإيجاده تعالى، وخلقه من غير مدخلية للقاتل فيه لا مباشرة ولا تولدا، وأنه لو لم يقتل، لجاز أن يموت في ذلك الوقت، وألا يموت من غير قطع بامتداد العمر، ولا بالموت بدل القتل؛ بدليل أن الله تعالى قد حكم بآجال العباد على ما علم من غير تردد، وأنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، في آيات وأحاديث دالة على أن كل هالك يستوفي أجله من غير تقدم عليه ولا تأخر عنه، وحديث: إن بعض الطاعات يزيد في العمر لا يعارض القواطع؛ لأنه خبر واحد، وأن الزيادة فيه بحسب الخير والبركة، أو بالنسبة إلى ما أثبتته الملائكة في صحفها، فقد يثبت فيها الشيء مطلقا وهو في علم الله تعالى مقيد، ثم يئول إلى موجب علمه سبحانه، على ما يشير إليه قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. فالمعتبر إنما هو ما تعلق العلم الأزلي ببلوغه، هذا ما عليه أهل الحق (وغير هذا) من مذاهب المخالفين؛ كمذهب الكعبي من المعتزلة: أن المقتول ليس بميت؛ لأن القتل فعل العبد، والموت فعله تعالى وأثر صنيعه، فالمقتول له أجلان: القتل، والموت، وأنه لو لم يقتل ، لعاش إلى أجله الذي هو الموت؛ وكمذهب الكثير من المعتزلة: أن القاتل قطع على المقتول أجله، وأنه لو لم يقتل، لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله موته فيه لولا القتل، أو لمات في ذلك الوقت (باطل) أي: غير مطابق للواقع؛ لمنافاته للقواطع التي لا تقبل التأويل، وكل باطل (لا يقبل) عند العقلاء المتمسكين بالحق. ينظر: التعليقات على شارح الجوهرة ص 138-140.
[2455]:- أخرجه الطبري بمعناه (3/384) عن ابن زيد.
[2456]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/50.
[2457]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/50.