قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } . قال أكثر أهل التفسير : كانت قرية يقال لها : داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون ، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة ، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا ، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها ، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها ، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح ، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا فماتوا جميعاً .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " . فرجع عمر من سرغ .
قال الكلبي ومقاتل والضحاك : إنما فروا من الجهاد ، وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم ، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم : إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء ، فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت فلما رأى الملك ذلك قال : اللهم رب يعقوب ، وإله موسى وهارون ، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلما خرجوا قال لهم الله تعالى : موتوا ، عقوبة لهم ، فماتوا جميعاً وماتت دوابهم ، كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم ، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم ، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها . واختلفوا في مبلغ عددهم ، قال عطاء الخراساني : كانوا ثلاثة آلاف ، وقال وهب : أربعة آلاف وقال مقاتل والكلبي : ثمانية آلاف ، وقال أبو روق : عشرة آلاف ، وقالى السدي : بضعة وثلاثون ألفاً ، وقال ابن جريج : أربعون ألفاً ، وقال عطاء ابن رباح : سبعون ألفاً ، وأولى الأقاويل : قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف ، لأن الله تعالى قال ( وهم ألوف ) والألوف جمع الكثير وجمعه القليل " آلاف " ، " والألوف " لا يقال لما دون عشرة آلاف ، قالوا : فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم ، وعريت عظامهم ، فمر عليهم نبي يقال له ، حزقيل بن بودى ، ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام ، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون ، ثم كالب بن وقنا ، ثم حزقيل ، كان يقال له ابن العجوز ، لأن أمه كانت عجوزا ، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها . قال الحسن ، ومقاتل : هو ذو الكفل ، وسمي حزقيل ذا الكفل ، لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل ، فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم ، فجعل يتفكر فيهم متعجبا ، فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية ؟ قال : نعم . فأحياهم الله وقيل : دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم . وقال مقاتل والكلبي : هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام ، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى ، فبكى وقال : يا رب كنت في قوم يحمدونك ، ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك ، فبقيت وحيداً لا قوم لي ، فأوحى الله تعالى إليه : أني جعلت حياتهم إليك ، قال حزقيل : احيوا بإذن الله ! فعاشوا . قال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوباً إلا عاد دنساً مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : وإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، قال قتادة : مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ، ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم ولو جاءت آجالهم ما بعثوا ، فذلك قوله تعالى : ( ألم تر ) أي ألم تعلم بإعلامي إياك ، وهو من رؤية القلب . قال أهل المعاني : هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم ؟ كما تقول : ألم تر إلى ما يصنع فلان ؟ وكل ما في القرآن ( ألم تر ) ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا وجهه ( ألم ترى إلى الذين خرجوا من ديارهم ) .
قوله تعالى : { وهم ألوف } . جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم : جمع آلف مثل قاعد وقعود ، والصحيح أن المراد منه العدد .
قوله تعالى : { حذر الموت } . أي خوف الموت .
قوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا } . أمر تحويل كقوله تعالى ( كونوا قردة خاسئين ) .
قوله تعالى : { ثم أحياهم } . بعد موتهم .
قوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } . قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا ، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين .
قوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } . أما الكفار فلم يشكروا ، وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر .
فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص :
( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ؛ فقال لهم الله : موتوا . ثم أحياهم . إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) . .
لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات ، عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . . من هم ؟ وفي أي أرض كانوا ؟ وفي أي زمان خرجوا ؟ . . . . فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين ، كما يجيء القصصالمحدد في القرآن . إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها ، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها . وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها . .
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة ، وأسبابهما الظاهرة ، وحقيقتهما المضمرة ؛ ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة . والاطمئنان إلى قدر الله فيهما . والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع ، فالمقدر كائن ، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف . .
يراد أن يقال : إن الحذر من الموت لا يجدي ؛ وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة ، ولا يمدان أجلا ، ولا يردان قضاء ؛ وإن الله هو واهب الحياة ، وهو آخذ الحياة ؛ وإنه متفضل في الحالتين : حين يهب ، وحين يسترد ؛ والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد . وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك ؛ وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء :
( إن الله لذو فضل على الناس . ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) .
إن تجمع هؤلاء القوم ( وهم ألوف )وخروجهم من ديارهم ( حذر الموت ) . . لا يكون إلا في حالة هلع وجزع ، سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم ، أو من وباء حائم . . إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا :
( فقال لهم الله . . موتوا ) . .
كيف قال لهم ؟ كيف ماتوا ؟ هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا ؟ هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا ؟ كل ذلك لم يرد عنه تفصيل ، لأنه ليس موضع العبرة . إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر ، لم تغير مصيرهم ، ولم تدفع عنهم الموت ، ولم ترد عنهم قضاء الله . وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله . .
كيف ؟ هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة ؛ هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء ؟ . . ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل . فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل ، لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير . . إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير منهم . في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم .
إن الهلع لا يرد قضاء ؛ وإن الفزع لا يحفظ حياة ؛ وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء . . إذن فلا نامت أعين الجبناء !
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه : كانوا ثمانية آلاف . وقال أبو صالح : تسعة آلاف وعن ابن عباس : أربعون ألفًا وقال وهب بن منبه وأبو مالك : كانوا بضعة وثلاثين ألفًا
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانوا أهل قرية يقال لها : داوردان . وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد : من قبل واسط . وقال سعيد بن عبد العزيز : كانوا من أهل أذرعات ، وقال ابن جريج عن عطاء قال : هذا مثل . وقال علي بن عاصم : كانوا : من أهل داوردان : قرية على فرسخ من واسط .
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره : حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي ، عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا : نأتي أرضًا ليس بها{[4194]} موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم{[4195]} موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم ، فذلك قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } الآية .
وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا{[4196]} أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية ، فنزلوا واديًا أفيح ، فملأوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور [ وفنوا ]{[4197]} وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ، ثم أمره فنادى : أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا . فكان ذلك ، وهو يشاهده ثم أمره فنادى : أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره . فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة ، وهم يقولون : سبحانك [ اللهم ربنا وبحمدك ]{[4198]} لا إله إلا أنت .
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي : فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } أي : لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم .
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، فإن هؤلاء فروا{[4199]} من الوباء طلبًا{[4200]} لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد .
ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد [ ابن أسلم ] {[4201]} بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس : أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا لبعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كان بأرض وأنتم فيها {[4202]} فلا تخرجوا فرارًا منه ، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه " فحمد الله عمر ثم انصرف .
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به{[4203]} .
طريق أخرى لبعضه : قال أحمد : حدثنا حجاج ويزيد العمِّي قالا أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة : أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر ، وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها {[4204]} فلا تخرجوا فرارًا منه " قال : فرجع عمر من الشام .
وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه{[4205]} .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( 243 )
هذه رؤية القلب بمعنى : ألم تعلم ، والكلام عند سيبويه بمعنى تنبه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين( {[2350]} ) ، وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك( {[2351]} ) هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ، 244 ] الآية ، وحكى قوم من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ، فخرجوا من ديارهم فراراً منه ، فأماتهم الله ، فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطاً ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي عليه السلام ، فدعا الله فأحياهم له ، وقال السدي : «هم أمة كانت قبل واسط في قرية يقال لها داوردان ، وقع بها الطاعون فهربوا منه وهم بضعة وثلاثون ألفاً » . في حديث طويل ، ففيهم نزلت الآية . وقال إنهم فروا من الطاعون الحسن وعمرو بن دينار . وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى . وحكى فيهم مجاهد أنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون . لكن سحنة الموت( {[2352]} ) على وجوههم . ولا يلبس أحد منهم ثوباً إلا عاد كفناً رميماً حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم ، وروى ابن جريج عن ابن عباس أنهم كانوا من بني إسرائيل ، وأنهم كانوا أربعين ألفاً وثمانية آلاف ، وأنهم أميتوا ثم أحيوا وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم ، فأمرهم الله بالجهاد ثانية فذلك قوله { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190- 244 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القصص كله لين الأسانيد( {[2353]} ) ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف ، عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ، ليروا هم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر ، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد . هذا قول الطبري ، وهو ظاهر رصف الآية ، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها . واختلف الناس في لفظ { ألوف } . فقال الجمهور : هي جمع ألف . وقال بعضهم : كانوا ثمانين ألفاً . وقال ابن عباس : «كانوا أربعين ألفاً » . وقيل : كانوا ثلاثين ألفاً . وهذا كله يجري مع { ألوف } إذ هو جمع الكثير ، وقال ابن عباس أيضاً : «كانوا ثمانية آلاف » ، وقال أيضاً : أربعة آلاف ، وهذا يضعفه لفظ { ألوف } لأنه جمع الكثير( {[2354]} ) . وقال ابن زيد في لفظ { ألوف } : «إنما معناها وهم مؤتلفون » أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم .
إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فراراً من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم( {[2355]} ) .
وقوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا } الآية ، إنما هي مبالغة في العبارة عن فعله بهم . كان ذلك الذي نزل بهم فعل من قيل له : مت ، فمات ، وحكي أن ملكين صاحا بهم : موتوا ، فماتوا . فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين . وهذا الموت ظاهر الآية ، وما روي في قصصها أنه موت حقيقي فارقت فيها الأرواح الأجساد ، وإذا كان ذلك فليس بموت آجالهم ، بل جعله الله في هؤلاء كمرض حادث مما يحدث على البشر( {[2356]} ) . وقوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } الآية ، تنبيه على فضل الله على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم وأمرهم بالجهاد ، وأمرهم بأن لا يجعلوا الحول والقوة إلاّ له ، حسبما أمر جميع العالم بذلك ، فلم يشكروا نعمته في جميع هذا ، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم . وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل ، أي فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم وهدايته بالأوامر والنواهي ، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا طلب الخروج عنها ، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل الشاكر .