قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الآية ، نزلت في الحث على غزوة تبوك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم ، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، حين طابت الثمار والظلال ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وري بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، ومفاوز هائلة ، وعدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم } أي : قال لكم رسول الله : " انفروا " اخرجوا في سبيل الله " اثاقلتم " أي : تثاقلتم وتبأطأتم إلى الأرض أي لزمتم أرضكم ومساكنكم ، " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " ، أي : بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " .
ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل اللّه ، والتذكير لهم بما كان من نصر اللّه لرسوله ، قبل أن يكون معه منهم أحد ، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم ، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير .
( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض )
إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . . ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . . ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . . ثقلة اللحم والدم والتراب . . والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه : ( اثاقلتم ) . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ! ويلقيها بمعنى ألفاظه : ( اثاقلتم إلى الأرض ) . . وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .
إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود :
( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ? فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )
وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - [ ص ] - " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق " . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد اللّه ، والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
هذا شروع في عتاب من تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحَمَارَّة{[13499]} القيظ ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ } أي : تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار ، { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } أي : ما لكم فعلتم{[13500]} هكذا أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة
ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة ، فقال : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } كما قال الإمام أحمد .
حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن المستَوْرِد أخي بني فِهْر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بما ترجع ؟{[13501]} وأشار بالسبابة .
انفرد بإخراجه مسلم{[13502]} وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مسلم بن{[13503]} عبد الحميد الحِمْصي ، حدثنا الربيع بن رَوْح ، حدثنا محمد بن خالد الوهبي ، حدثنا زياد - يعني الجصاص - عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة ، سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله يقول : " إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة " قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة " ثم تلا هذه الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } {[13504]} {[13505]} فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل .
وقال [ سفيان ]{[13506]} الثوري ، عن الأعمش في الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } قال : كزاد الراكب .
وقال عبد العزيز بن أبي حازم{[13507]} عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه ، أنظر إليه{[13508]} فلما وضع بين يديه نَظَر إليه فقال : أمَا لي من كَبِير{[13509]} ما أخلف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أفٍّ لك من دار . إن كان كثيرُك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك لفي غرور .
{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم } تباطأتم ، وقرئ " تثاقلتم " على الأصل و " أثاقلتم " على الاستفهام للتوبيخ . { إلى الأرض } متعلق به كأنه ضمن معنى الإخلاد والميل فعدي بإلى ، وكان ذلك في غزوة تبوك أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف في وقت عسرة وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم . { أرضيتم بالحياة الدنيا } وغرورها . { من الآخرة } بدل الآخرة ونعيمها . { فما متاع الحياة الدنيا } فما التمتع بها . { في الآخرة } في جنب الآخرة . { إلا قليل } مستحقر .
هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتاباً على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفاً بين راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة ، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي ، وقوله { ما لكم } استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ ، وقوله { قيل } يريد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعلة يقتضي إغلاظاً ومخاشنة ما ، و «النفر » هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث ، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيراً ونفراً ، ويقال في الدابة نفرت تنفرُ بضم الفاء نفوراً{[5650]} ، وقوله { اثاقلتم } أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال { فادارأتم }{[5651]} وكما تقول اَّزَّين ، وكما قال الشاعر [ الكسائي ] : [ البسيط ]
تولي الضجيع إذا ما استافها خصراً*** عذب المذاق إذا ما اتّابَع القبل{[5652]}
وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم » على الأصل ، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم » بتاءين ثم ثاء مثلثة ، وقال هي خطأ أو غلط ، وصوب «تثاقلتم » بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرىء بها ، وقوله { اثاقلتم إلى الأرض } عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم ، وهو نحو من أخلد إلى الأرض ، وقوله : { أرضيتم } تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد ، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر ، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي{[5653]} .
هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله ، بطريقة العتاب على التباطىء بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد ، والمقصود بذلك غزوة تبوك . قال ابن عطية : « لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتاباً على تخلّف مَن تخلّف عن غزوة تبوك ، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون » فالكلام متّصل بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] وبقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله { فذوقوا ما كنتم تكنزون } [ التوبة : 29 35 ] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات .
وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة ، وكان ذلك في وقت حرّ شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً ، حين نضجت الثمار ، وطابت الظلال ، وكان المسلمون يومئذٍ في شدّة حاجة إلى الظهر والعُدّة . فلذلك سُمّيت غزوة العُسرة كما سيأتي في هذه السورة ، فجلى رسولُ الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم ، وأخبرهم بوجههِ الذي يريد ، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلاّ وَرَّى بما يوهم مكاناً غير المكان المقصود ، فحصل لبعض المسلمين تثاقل ، ومن بعضهم تخلّف ، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد .
فإنّ نحن جرَينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة ، وأنّه بعد غزوة تبوك ، كما هو الأرجح ، وهو قول جمهور المفسّرين ، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت { إذا } مستعملة ظرفاً للماضي ، على خلاف غالب استعمالها ، كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] وقوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد } [ التوبة : 92 ] الآية ، فإنّ قوله : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } [ النساء : 75 ] صالح لإفادَة ذلك ، وتحذيرٌ من العودة إليه ، لأنّ قوله : { إلاَّ تنفروا } و { إلاّ تنصروه } و { انفروا خفافاً } مراد به ما يستقبل حين يُدعَون إلى غزوة أخرى ، وسنبيّن ذلك مفصّلاً في مواضعه من الآيات .
وإن جرينا على ما عَزاه ابن عطية إلى النقاش : أنّ قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } هي أول آية نزلت من سورة براءة ، كانت الآية عتاباً على تكاسلٍ وتثاقلٍ ظهرا على بعض الناس ، فكانت { إذا } ظرفاً للمستقبل ، على ما هو الغالب فيها ، وكان قوله : { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } [ التوبة : 39 ] تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك ، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في « السيرة » وما ترجّح في نزول هذه السورة .
و { مَا } في قوله : و { ما لكم } اسم استفهام إنكاري ، والمعنى : أي شيء ، و { لكم خبر عن الاستفهام أي : أي شيء ثَبت لكم .
و{ إذا } ظرف تعلّق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى : أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه : انفروا ، وليس مضمّناً معنى الشرط لأنّه ظرفُ مُضيّ .
وجملة { اثاقلتم } في موضع الحال من ضمير الجماعة ، وتلك الحالة هي محل الإنكار ، أي : ما لكم متثاقلين . يقال : ما لكَ فعلت كذا ، وما لك تَفعل كذا كقوله : { ما لكم لا تناصرون } [ الصافات : 25 ] ، وما لك فاعِلاً ، كقوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } [ النساء : 88 ] .
والنَّفْر : الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمرٍ يحدث ، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب ، ومصدره حينئذٍ النفير .
وسبيل الله : الجهاد ، سمّي بذلك لأنّه كالطريق الموصّل إلى الله ، أي إلى رضاه .
و { اثَّاقلتم } أصله تثاقلتم قلبت التاء المثنّاة ثاء مثلّثة لتقارب مخرجيهما طلباً للإدغام ، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه .
( والتثاقل ) تكلّف الثقل ، أي إظهار أنّه ثقيل لا يستطيع النهوض .
والثِقَل حالة في الجسم تقتضي شدّة تطلّبه للنزول إلى أسفل ، وعُسرَ انتقاله ، وهو مستعمل هنا في البطء مجازاً مرسلاً ، وفيه تعريض بأنّ بُطأهم ليس عن عجز ، ولكنّه عن تعلّق بالإقامة في بلادهم وأموالهم .
وعُدّي التثاقل ب { إلى } لأنّه ضمن معنى المَيل والإخلاد ، كأنّه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها .
ومجموع قوله : { اثاقلتم إلى الأرض } تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعُذر عن الجهاد كسلاً وجبناً بحال من يُطلب منه النهوض والخروج ، فيقابل ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض ، والتمكّن من القعود ، فيأبى النهوض فضلاً عن السير .
وقوله : { إلى الأرض } كلام موجه بديع : لأنّ تباطؤهم عن الغزو ، وتطلّبهم العذر ، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم ، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى أرضكم ودياركم .
والاستفهام في { أرضيتم بالحياة الدنيا } إنكاري توبيخي ، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين .
و { مِنْ } في { من الآخرة } للبدل : أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلاً عن الآخرة . ومثل ذلك لا يُرضَى به والمراد بالحياة الدنيا ، وبالآخرة : منافعهما ، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة .
واختير فعل { رَضيتم } دون نحو آثرتم أو فضّلتم : مبالغة في الإنكار ، لأن فعل ( رضي بكذا ) يدلّ على انشراح النفس ، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار « فشرب حتّى رضيت » .
والمَتاع : اسم مصدر تمتّع ، فهو الالتذاذ والتنعّم ، كقوله : { متاعاً لكم ولأنعامكم } [ عبس : 32 ] ووصفه ب { قليل } بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه .
ويحتمل أن يكون المتاع هنا مراداً به الشيء المتمتّع به ، من إطلاق المصدر على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة .
وحرف { في } من قوله : { في الآخرة } دالّ على معنى المقايسة ، وقد جعلوا المقايسة من معاني { في } كما في « التسهيل » و« المغني » ، واستشهدوا بهذه الآية أخذاً من « الكشاف » ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو « الكشّاف » ، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد ( 26 )
{ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } ، وقوله في حديث مسلم ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثَل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع وهو في التحقيق ( مِن ) الظرفية المجازية : أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلاً بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة ، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلاّ عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها ، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعمالِ حرف الظرفية ، وليس معنى موضوعاً له حرف ( في ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله}، نزلت في المؤمنين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالسير إلى غزوة تبوك في حر شديد، {اثاقلتم إلى الأرض}، فتثاقلوا عنها، {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} يعنى إلا ساعة من ساعات الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذه الآية حثّ من الله جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك. يقول جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ما لَكُمْ أيّ شيء أمركم، إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ يقول: إذا قال لكم رسول الله محمد: انفروا أي اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم. وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاجه على ذلك، ومنه نفور الدابة غير أنه يقال من النفر إلى الغزو: نفر فلان إلى ثغر كذا يَنْفِرُ نَفْرا ونَفِيرا، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرقون بها بين اختلاف المخبر عنه وإن اتفقت معاني الخبر فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون إذ قيل لكم: اخرجوا غزاه في سبيل الله أي في جهاد أعداء اللّه، اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ يقول تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها. وقيل: «اثّاقلتم» لأنه أدغم التاء في الثاء. فأحدث لها ألف ليتوصل إلى الكلام بها. لأن التاء مدغمة في الثاء، ولو أسقطت الألف وابتدىء بها لم تكن إلا متحركة، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها، كما قال جلّ ثناؤه: حتى إذَا ادّاركُوا فِيهَا جَمِيعا وقوله:"أرَضِيتُمْ بالحَياةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ" يقول جلّ ثناؤه، أرضيتم بحظّ الدنيا والدعة فيها عوضا من نعيم الآخرة وما عند الله للمتقين في جنانه؟ "فَمَا مِتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا فِي الآخِرةِ "يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدّها الله لأوليائه وأهل طاعته "إلاّ قَلِيلٌ" يسير. يقول لهم: فاطلبوا أيها المؤمنون نعيم الآخرة وترف الكرامة التي عند الله لأوليائه بطاعته، والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوّه.
اقتضى ظاهرُ الآية وُجُوبَ النفير على من لم يستنفر؛ وقال في آية بعدها: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقًالاً}. فأوجب النفير مطلقاً غير مقيَّدٍ بشرط الاستنفار، فاقتضى ظاهره وجوب الجهاد على كل مستطيع له...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
الآية فيها حثٌّ من الله سبحانه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر [حين] فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم على الناس غزوة الروم، وأحبّوا الظلال والمقام في المسكن والمال، فشقّ عليهم الخروج إلى القتال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّ ما خرج في غزوة إلاّ كنّى عنها وورّى بغيرها إلا غزوة تبوك لبُعد شقتها وكثرة العدو ليتأهب الناس وأمرهم بالجهاد، وأخبرهم بالذي يريد، فلمّا علم الله تثاقل الناس، أنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا مالكم أي شيء أمركم {إِذَا قِيلَ لَكُمُ} إذا قال لكم رسول الله {انفِرُواْ} اخرجوا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج على ذلك، فقالت نفر فلان إلى ثغر كذا، ينفر نفراً ونفوراً، ومنه نفور الدابة ونفارها {اثَّاقَلْتُمْ} تباطأتم. {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي أرضيتم الدنيا ودِعتها عوضاً من نعيم الآخرة وثوابها {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} ثم أوعدهم على ترك الجهاد
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قال الحسن ومجاهد: دُعوا إلى غزوة تبوك فتثاقلوا فنزل ذلك فيهم. وفي قوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} ثلاثة أوجه: أحدها: إلى الإقامة بأرضكم ووطنكم. والثاني: إلى الأرض حين أخرجت الثمر والزرع. قال مجاهد: دعوا إلى ذلك أيام إدراك النخل ومحبة القعود في الظل. الثالث: اطمأننتم إلى الدنيا، فسماها أرضاً لأنها فيها، وهذا قول الضحاك. وقد بينه قوله تعالى: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرة} يعني بمنافع الدنيا بدلاً من ثواب الآخرة. والفرق بين الرضا والإرادة أن الرضا لما مضى، والإرادة لما يأتي. {فَمَا مَتَاعُ الَْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} لانقطاع هذا ودوام ذاك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى لجماعة من المؤمنين وعتاب وتوبيخ لهم بأنهم إذا قيل لهم على لسان رسوله "انفروا في سبيل الله "ومعناه اخرجوا في سبيل الله يعني الجهاد وسماه سبيل الله، لأن القيام به موصل إلى معنى الجنة ورضا الله تعالى والنفر الخروج إلى الشيء لأمر هيج عليه وضده الهدوء تقول: نفر إلى الثغر ينفر نفرا ونفيرا ولا يقال النفور إلا في المكروه كنفور الدابة عما تخاف.
وقوله "اثاقلتم إلى الأرض" أصله تثاقلتم، والتثاقل: تعاطي إظهار ثقل النفس ومثله التباطؤ، وضده التسرع. ومعنى "اثاقلتم إلى الأرض" قيل فيه قولان: أحدهما -إلى المقام بأرضكم ووطنكم.
الثاني- لما أخرج من الأرض من الثمر والزرع.
والرضا هو الإرادة، غير أنها لا توصف بذلك إلا إذا تعلقت بما مضى من الفعل والإرادة توصف بما لم يوجد بعد، قال تعالى مخبرا "فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل" أي ليس الانتفاع بما يظهر للحواس إلا قليل... ويقال للأشياء التي لها أثمان: متاع تشبيها بالانتفاع به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عاتَبهم على تَركِ البدار عند توجيه الأمر، وانتهاز فُرْصَةِ الرُّخصَة. وأَمَرَهم بالجد في العزم، والقَصْدِ في الفعل؛ فالجنوحُ إلى التكاسل، والاسترواحُ إلى التثاقل أماراتُ ضعفِ الإيمان إذ الإيمان غريمٌ مُلازِمٌ لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشْقِّ، وملابسة الأحَقِّ. قوله: {أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا}: وهل يَجْمُل بالعابِد أَنْ يختارَ دنياه على عقْباه؟ وهل يحسُن بالعارف أَنْ يُؤْثِرَ هواه على رضا مولاه؟
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتاباً على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفاً بين راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي..
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ}: مَا: حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ عَنْ كَذَا؟ كَمَا تَقُولُ مَا لَك عَنْ فُلَانٍ مُعْرِضًا. وَنِظَامُهُ الصِّنَاعِيُّ مَا حَصَّلَ لَك مَانِعًا لِكَذَا أَوْ كَذَا. وَكَذَا تَقُولُ: مَا لَك تَقُومُ وَتَقْعُدُ؟
التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ حَصَّلَ لَك مَانِعًا من الِاسْتِقْرَارِ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}:
يُقَالُ: نَفَرَ إذَا زَالَ عَنْ الشَّيْءِ. وَتَصْرِيفُهُ نَفَرَ يَنْفِرُ نَفِيرًا، وَنَفَرَتْ الدَّابَّةُ تَنْفِرُ نُفُورًا، وَكَأَنَّ النُّفُورَ فِي الْإِبَايَةِ، وَالنَّفِيرَ فِي الْإِقْبَالِ وَالسِّعَايَةِ. وَقَدْ يُؤَلَّفَانِ عَلَى رَأْيِ من يَرَى تَأْلِيفَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِوَجْهٍ يَبْعُدُ تَارَةً وَيَقْرُبُ أُخْرَى، وَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ هَاهُنَا: زُولُوا عَنْ أَرْضِيكُمْ وَأَهْلِيكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَحَلِّ النَّفِيرِ:
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَزْوَةُ تَبُوكَ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَيْهَا فِي حَمَّارَةِ الْقَيْظِ، وَطَيِّبِ الثِّمَارِ، وَبَرْدِ الظِّلَالِ؛ فَاسْتَوْلَى عَلَى النَّاسِ الْكَسَلُ، وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْمَيْلِ إلَيْهَا الْأَمَلُ، فَتَقَاعَدُوا عَنْهُ، وَتَثَاقَلُوا عَلَيْهِ، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا، وَعَابَ عَلَيْهِمْ الْإِيثَارَ لِلدُّنْيَا عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ {اثَّاقَلْتُمْ}:
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ تَثَاقَلْتُمْ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ، وَعِتَابٌ فِي التَّقَاعُدِ عَنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخُرُوجِ.
وَنَحْو قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ}، الْمَعْنَى لَا تُقْبِلُوا عَلَى الْأَمْوَالِ إيثَارًا لَهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا تَرْكَنُوا إلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، تَقْدِيمًا لَهَا عَلَى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ الَّتِي تُنْجِيكُمْ من الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَةِ}:
يَعْنِي بَدَلًا من الْآخِرَةِ...
عَاتَبَهُمْ عَلَى إيثَارِ الرَّاحَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرَّاحَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ إذْ لَا تُنَالُ رَاحَةُ الْآخِرَةِ إلَّا بِنَصَبِ الدُّنْيَا. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ طَافَتْ رَاكِبَةً: (أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ). و َهَذَا لَا يَصْدُرُ [إلَّا] عَنْ قَلْبٍ مُوقِنٍ بِالْبَعْثِ.
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفار وفضائحهم، عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم وقال: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسبابا كثيرة موجبة لقتالهم، وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله: {يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} وذكر أقوالهم المنكرة وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا، وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة. فبين تعالى أن هذا المانع خسيس لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل جهل وسفه.
المسألة الثالثة: يقال: استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفرا ونفورا، إذا حثهم ودعاهم إليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا استنفرتم فانفروا" وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب، واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير، ومنه قولهم: فلان لا في العير ولا في النفير...
وقوله: {مالكم إذا قيل لكم} وإن كان في الظاهر استفهاما إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار...
ثم قال تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} والمعنى كأنه قيل قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال، وقد شرحنا المنافع العظيمة التي تحصل عند القتال، وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، فتركتم جميع هذه الأمور، أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة؟ فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة، لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا؟ والدليل على أن متاع الدنيا في الآخرة قليل، إن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ومنقطعة عن قريب لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات، ودائمة أبدية سرمدية. وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس...
المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا، وليس لقائل أن يقول الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه، لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم الروم عليه، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم، ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران، وأيضا هو واجب على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين...
المسألة الخامسة: لقائل أن يقول إن قوله: {يا أيها الذين آمنوا} خطاب مع كل المؤمنين. ثم قال: {مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف، وذلك التثاقل معصية، وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة.
الجواب: أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن، وفي سائر أنواع الكلام كقوله: إياك أعني واسمعي يا جارة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أوعز سبحانه في أمر الجهاد، وأزاح جميع عللهم وبين أن حسنه لا يختص به شهر دون شهر وأن بعضهم كان يحل لهم ويحرم فيتبعونه بما يؤدي إلى تحريم الشهر الحلال وتحليل الشهر الحرام بالقتال فيه، عاتبهم الله سبحانه على تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمر لهم بالنفر في غزوة تبوك عن أمره سبحانه، وكان ابتداؤها في شهر رجب سنة تسع، فقال تعالى على سبيل الاستعطاف والتذكير بنعمة الإيمان بعد ختم التي قبلها بأنه لا يهدي الكافرين -الذي يعم الحرب وغيره الموجب للجرأة عليهم [لأن من لا هداية له أعمى، والأعمى لا يخشى]: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {ما لكم} أي ما الذي يحصل لكم في أنكم {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان {انفروا} أي اخرجوا مسرعين بجد ونشاط جماعات و وحداناً إمداداً لحزب الله ونصراً لدينه تصديقاً لدعواكم الإيمان، والنفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاج على ذلك {في سبيل الله} أي بسبب تسهيل الطريق إلى الملك الذي له جميع صفات الكمال، وقال أبو حيان: بني "قيل "للمفعول والقائل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره إذ أخلد إلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره- انتهى. {اثاقلتم} أي تثاقلتم تثاقلاً عظيماً، وفيه ما لم يذكروا له سبباً ظاهراً بما أشار إليه الإدغام إخلاداً وميلاً {إلى الأرض} أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها، فكنتم أرضيين في سفول الهمم، لا سمائيين بطهارة الشيم. ولما لم يكن -في الأسباب التي تقدم أنها كانت تحمل على التباطؤ عن الجهاد- ما يحتمل القيام بهم في هذه الغزوة إلا الخوف من القتل والميل إلى الأموال الحاضرة وثوقاً بها والإعراض عن الغنى الموعود به الذي ربما يلزم من الإعراض عنه التكذيب، فيؤدي إلى خسارة الآخرة، هذا مع ما يلزم على ذلك -ولا بد- من الزهد في الأجر المثمر لسعادة العقبى بهذا الشيء الخسيس؛ قال مبيناً خسة ما أخلدوا إليه تزهيداً فيه وشرف ما أعرضوا عنه ترغيباً منبهاً على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكراً على من تثاقل موبخاً لهم: {أرضيتم بالحياة الدنيا} أي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة {من الآخرة} أي الفاخرة الباقية؛ قال أبو حيان: و "من" تظافرت أقوال المفسرين أنها بمعنى بدل، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل -انتهى. والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لابتداء الغاية، فإذا قلت: رضيت بكذا من زيد، كان المعنى أنك أخذت ذلك أخذاً مبتدئاً منه غير ملتفت إلى ما عداه، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك المأخوذ. ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع، كان إقبالهم على الدنيا كأنه مبتدىء مما كانوا قد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها، فكأنه قيل: أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الآخرة؟ ويؤيد ما فهمته أن العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية أنهم عدوا ل {من} خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين، وبين كيفية ذلك حتى في البيانية، فمعنى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] الذي ابتداؤه من الأوثان، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها. ولما كان الاستفهام إنكارياً كان معناه النهي، فكان تقدير: لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده! فقال تعالى معللاً لهذا النهي: {فما} أي بسبب أنه ما {متاع الحياة الدنيا في} أي مغموراً في جنب {الآخرة إلا قليل} والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا السياق من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك- وما كانت وسيلة له من هتك أستار النفاق، وتطهير المؤمنين من عوامل الشقاق- إلا الآيتين في آخرها، وما يتخللها من بعض الحكم والأحكام على السنة والمعروفة في أسلوب القرآن. ومناسبته لما قبله أن المراد قتالهم في تبوك هم الروم وأتباعهم المستعبدون من عرب الشام، وكلهم من النصارى الذين نزلت الآيات الأخيرة في حكم قتال اليهود وقتالهم، وبيان حقيقة أحوالهم، وأهمها خروجهم عن هداية دين المسيح عليه السلام في كل من العقائد والفضائل والأعمال، وكان ذكر النسيء في آخره لما ذكرنا. وإننا نقدِّم على تفسير الآيات بيان سبب غزوة تبوك وفاء بما وعدنا به، فنقول: غزوة تبوك وسببها. تبوك مكان معروف في منتصف الطريق بين المدينة المنورة ودمشق تقريبا، وقالوا: إن بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، واللفظ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على الأشهر. قال الحافظ في فتح الباري: وكان السبب فيها -أي الغزوة- ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء. فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك. وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له قباذ، وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيراً إلى الشام، فقال يا رسول الله: هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ومائتا أوقية -أي من الفضة- قال: فسمعته يقول: (لا يضر عثمان ما عمل بعدها)، وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حباب نحوه. وذكر أبو سعيد في (شرف المصطفى) والبيهقي في الدلائل من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام، فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء. فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} [الإسراء:76] الآية انتهى، وإسناده حسن مع كونه مرسلا. اهـ ما ذكره الحافظ. والصحيح المعتمد في السبب هو الأول، وما ندري من هؤلاء اليهود الذي قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا؟ وكان هذا بعد الفراغ من يهود المدينة وإجلائهم. والعجيب من الحافظ كيف قال: إن هذا الحديث حسن مع قوله في شهر بن حوشب في التقريب: إنه كثير الإرسال والأوهام، وعلمه ونقله لما لهم فيه من المطاعن في تهذيب التهذيب؟ وقد صرح السيوطي بضعف الحديث في أسباب النزول، وفي كتب السير أن ما بذله عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة أكثر مما ذكر في حديث عمران. وقد كانت غزوة تبوك في شهر رجب من سنة تسع باتفاق الرواة، وهو موافق لما رواه ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، بجعل الستة الأشهر بعد عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى المدينة، فهو صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة في شهر ذي الحجة من تلك السنة، قاله الحافظ. والغرض من هذا التمهيد لتفسير الآيات أن سبب هذه الغزوة استعداد الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وإعداد جيش كثيف للزحف به على المدينة، فهي كسائر غزواته صلى الله عليه وسلم دفاع لا اعتداء، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان الأمر بها لما سيذكر من الحكم والأحكام. قال عزَّ وجلَّ: {ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} الاستفهام في الآية للإنكار والتوبيخ. والخطاب للمؤمنين في جملتهم، تربية لهم بما لعله وقع من مجموعهم لا من جميعهم، ومنهم الضعفاء والمنافقون. والنفر والنفور عبارة عن فرار من الشيء أو إقدام عليه بخفة ونشاط وانزعاج، فهو كما قال الراغب: بمعنى الفزع إليه أو منه، يقال: نفرت الدابة والغزال نفورا، ونفر الحجيج من عرفات نفرا، واستنفر الإمام العسكر إلى القتال أو أعلن النفير العام فنفروا خفافاً وثقالاً، والتثاقل التباطؤ، فهو ضد النفر؛ لأنه من الثقل المقتضي للبطء، وهو يصدق على من لم يستجب لدعوة النفير، وعلى من حاول أو استجاب متباطئا. وأصل اثقالتم تثقالتم أدغمت المثناة في المثلثة فجيء بهمزة الوصل لأجل النطق بالساكن، والعرب لا تبدأ بالساكن ولا تقف على المتحرك. وقد عدي بإلى لتضمنه معنى التسفل والإخلاد إلى الأرض والميل إلى راحتها ونعيمها. ولما دعا المؤمنين لغزوة تبوك كان الزمن زمن الحر، وكانوا قريبي عهد بالرجوع من غزوتي الطائف وحنين، وكانت العسرة شديدة، وكان موسم الرطب في المدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر والراحة، لأن شهر رجب وافق في تلك السنة برج الميزان، وإن عبر عنه بعضهم بالصيف. روى ابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف بأمرهم النفير في الصيف حين اخترقت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، قال: فقالوا: منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله. وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أن يوري بغيرها لما تقتضيه مصلحة الحرب من الكتمان، إلا أنه في هذه الغزوة قد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر. فلهذه الأسباب كلها شق على المسلمين الخروج في ذلك الوقت إلى بلاد الشام، وكانت حكمة الله تعالى في إخراجهم وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالاً ما سنبينه في تفسير آياتها من تمحيص المؤمنين وخزي المنافقين، وفضيحتهم فيما كانوا يسرون من كفرهم وتربصهم الدوائر بالمؤمنين. والمعنى: يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ماذا عرض لكم مما ينافي صحة الإيمان أو كماله المقتضي للإذعان والطاعة حين قال لكم الرسول: انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو السبيل الموصل إلى معرفة الله وعبادته، وإقامة شرعه وسننه، فتثاقلتم عن النهوض بالنشاط وعلو الهمة، مخلدين إلى أرض الراحة واللذة؟ وآية الإيمان الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} أي أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذتها الناقصة الفانية، بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية؟ إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنأ وأدنى بالذي هو خير وأبقى. {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} أي فما هذا الذي يتمتع به في الحياة الدنيا منغصا بالشوائب والمتاعب في جنب ما في الآخرة من النعيم المقيم، والرضوان الإلهي العظيم، إلا شيء قليل لا يرضاه عاقل بدلاً منه؟ وإنما يؤثره عليه من لا يؤمن به، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم نعيم الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة في قلته في نفسه وزمنه بمن وضع أصبعه في اليم ثم أخرجها منه قال: «فانظر بم ترجع»؟ رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا المقطع من سياق السورة يرجح أنه نزل بعد الأمر بالنفير العام لغزوة تبوك. ذلك حين بلغ رسول اللّه -[ص]- أن الروم قد جمعوا له على أطراف الجزيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة، وانضمت إليهم لخم وجدام وعاملة وغسان من قبائل العرب. وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء من أعمال الشام. فاستنفر الناس إلى قتال الروم. وكان -[ص]- قلما يخرج إلى غزوة إلا ورّى بغيرها مكيدة في الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة. فقد صرح بها لبعد الشقة وشدة الزمان. إذ كان ذلك في شدة الحر، حين طابت الظلال، وأينعت الثمار، وحبب إلى الناس المقام.. عندئذ بدأت تظهر في المجتمع المسلم تلك الأعراض التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. كما وجد المنافقون فرصتهم للتخذيل. فقالوا:لا تنفروا في الحر. وخوفوا الناس بعد الشقة، وحذروهم بأس الروم.. وكان لهذه العوامل المختلفة أثرها في تثاقل بعض الناس عن النفرة.. وهذا ما تعالجه هذه الفقرة.. (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، واللّه على كل شيء قدير. إلاّ تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه:لا تحزن إن اللّه معنا، فأنزل اللّه سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة اللّه هي العليا، واللّه عزيز حكيم. انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوابأموالكم وأنفسكم في سبيل اللّه. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)..
ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل اللّه، والتذكير لهم بما كان من نصر اللّه لرسوله، قبل أن يكون معه منهم أحد، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير. (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض) إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض.. ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع.. ثقلة الدعة والراحة والاستقرار.. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب... ثقلة اللحم والدم والتراب.. والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: (اثاقلتم). وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل! ويلقيها بمعنى ألفاظه: (اثاقلتم إلى الأرض).. وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق. إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة؛ وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. لذلك يقول الرسول -[ص]- "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق". فالنفاق -وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال- هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد اللّه، والرزق من عند اللّه. وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله، بطريقة العتاب على التباطىء بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية: « لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتاباً على تخلّف مَن تخلّف عن غزوة تبوك، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون» فالكلام متّصل بقوله: {وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] وبقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله {فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 29 35] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات. وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة، وكان ذلك في وقت حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، حين نضجت الثمار، وطابت الظلال، وكان المسلمون يومئذٍ في شدّة حاجة إلى الظهر والعُدّة. فلذلك سُمّيت غزوة العُسرة كما سيأتي في هذه السورة، فجلى رسولُ الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم، وأخبرهم بوجههِ الذي يريد، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلاّ وَرَّى بما يوهم مكاناً غير المكان المقصود، فحصل لبعض المسلمين تثاقل، ومن بعضهم تخلّف، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد. فإنّ نحن جرَينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة، وأنّه بعد غزوة تبوك، كما هو الأرجح، وهو قول جمهور المفسّرين، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت {إذا} مستعملة ظرفاً للماضي، على خلاف غالب استعمالها، كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} [الجمعة: 11] وقوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد} [التوبة: 92] الآية، فإنّ قوله: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} [النساء: 75] صالح لإفادَة ذلك، وتحذيرٌ من العودة إليه، لأنّ قوله: {إلاَّ تنفروا} و {إلاّ تنصروه} و {انفروا خفافاً} مراد به ما يستقبل حين يُدعَون إلى غزوة أخرى، وسنبيّن ذلك مفصّلاً في مواضعه من الآيات. وإن جرينا على ما عَزاه ابن عطية إلى النقاش: أنّ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} هي أول آية نزلت من سورة براءة، كانت الآية عتاباً على تكاسلٍ وتثاقلٍ ظهرا على بعض الناس، فكانت {إذا} ظرفاً للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قوله: {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً} [التوبة: 39] تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في « السيرة» وما ترجّح في نزول هذه السورة. و {مَا} في قوله: و {ما لكم} اسم استفهام إنكاري، والمعنى: أي شيء، و {لكم خبر عن الاستفهام أي: أي شيء ثَبت لكم. و {إذا} ظرف تعلّق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى: أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه: انفروا، وليس مضمّناً معنى الشرط لأنّه ظرفُ مُضيّ. وجملة {اثاقلتم} في موضع الحال من ضمير الجماعة، وتلك الحالة هي محل الإنكار، أي: ما لكم متثاقلين. يقال: ما لكَ فعلت كذا، وما لك تَفعل كذا كقوله: {ما لكم لا تناصرون} [الصافات: 25]، وما لك فاعِلاً، كقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88]. والنَّفْر: الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمرٍ يحدث، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب، ومصدره حينئذٍ النفير. وسبيل الله: الجهاد، سمّي بذلك لأنّه كالطريق الموصّل إلى الله، أي إلى رضاه. و {اثَّاقلتم} أصله تثاقلتم قلبت التاء المثنّاة ثاء مثلّثة لتقارب مخرجيهما طلباً للإدغام، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه. (والتثاقل) تكلّف الثقل، أي إظهار أنّه ثقيل لا يستطيع النهوض. والثِقَل حالة في الجسم تقتضي شدّة تطلّبه للنزول إلى أسفل، وعُسرَ انتقاله، وهو مستعمل هنا في البطء مجازاً مرسلاً، وفيه تعريض بأنّ بُطأهم ليس عن عجز، ولكنّه عن تعلّق بالإقامة في بلادهم وأموالهم. وعُدّي التثاقل ب {إلى} لأنّه ضمن معنى المَيل والإخلاد، كأنّه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها. والأرض ما يمشي عليه الناس.
ومجموع قوله: {اثاقلتم إلى الأرض} تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلّبين للعُذر عن الجهاد كسلاً وجبناً بحال من يُطلب منه النهوض والخروج، فيقابل ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض، والتمكّن من القعود، فيأبى النهوض فضلاً عن السير.
وقوله: {إلى الأرض} كلام موجه بديع: لأنّ تباطؤهم عن الغزو، وتطلّبهم العذر، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى أرضكم ودياركم. والاستفهام في {أرضيتم بالحياة الدنيا} إنكاري توبيخي، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين. و {مِنْ} في {من الآخرة} للبدل: أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلاً عن الآخرة. ومثل ذلك لا يُرضَى به والمراد بالحياة الدنيا، وبالآخرة: منافعهما، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة. واختير فعل {رَضيتم} دون نحو آثرتم أو فضّلتم: مبالغة في الإنكار، لأن فعل (رضي بكذا) يدلّ على انشراح النفس، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار « فشرب حتّى رضيت». والمَتاع: اسم مصدر تمتّع، فهو الالتذاذ والتنعّم، كقوله: {متاعاً لكم ولأنعامكم} [عبس: 32] ووصفه ب {قليل} بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه. ويحتمل أن يكون المتاع هنا مراداً به الشيء المتمتّع به، من إطلاق المصدر على المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة. وحرف {في} من قوله: {في الآخرة} دالّ على معنى المقايسة، وقد جعلوا المقايسة من معاني {في} كما في « التسهيل» و« المغني»، واستشهدوا بهذه الآية أخذاً من « الكشاف» ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو « الكشّاف»، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد (26) {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، وقوله في حديث مسلم ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثَل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع وهو في التحقيق (مِن) الظرفية المجازية: أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلاً بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلاّ عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعمالِ حرف الظرفية، وليس معنى موضوعاً له حرف (في)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد أن بين الله تعالى الأشهر الحرم وعبث المشركين، بين الجهاد سيرا على نسق الأشهر الحرم، في قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (5)}. والقتال هنا قد تجاوز الجزيرة العربية إلى ما حولها من الشام، وتجاوز الوثنية إلى أهل الكتاب الذين يعبدون غير الله تعالى وذلك في غزوة تبوك، فقد كانت في شدة القيظ، وكانت بعد أن ملأت الغنائم الجيوب، وبعد أن أخذ الترفه يغزو النفس المؤمنة، وهو آفة القوة. أخذ يدعوهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد، فكان منهم من أقعدته الدعة، والاستنامة إلى الراحة، فلم يكونوا كما كانوا من قبل إذا دعوا إلى الجهاد سارعوا إليه، ولذا عاتبهم الله تعالى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ}، صدر النداء بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} للإشارة إلى أن موجب الإيمان كان يدعو إلى المبادرة، لا إلى التثاقل، وقوله {مَا لَكُمْ} استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، معناه أي شيء ثبت لكم فمنعكم من المبادرة إذا دعيتم، ثم صرح سبحانه بما تضمنه الاستفهام، وهو {اثَّاقَلْتُمْ}، أصلها تثاقلتم، وفي قراءة الأعمش (تثاقلتم) على أصل الاشتقاق (1)، وموضع الاستنكار هو التثاقل عندما {قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ}، و {إذا} متعلقة في الفعل المقدر في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ} والمعنى أي شيء أثبت لكم حال ما قيل انفروا اثاقلتم و {انفروا} معناه انتقلوا إلى الحرب، والجهاد في سبيل الله، فالنفير معناه الخروج إلى القتال. وقوله تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} معناه تثاقلتم، وثقلت عليكم المبادرة إلى القتال مخلدين بأنفسكم إلى الأرض حيث الدعة والراحة، والاستظلال بظلها، والسكون، ويتضمن هذا المعنى أنهم رضوا بالتقاعد في الأرض وترك الرفعة والمقام المحمود في الجهاد، كقوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض (176)} (الأعراف). والمعنى أنهم إذ تثاقلوا عن الجهاد رضوا البقاء في الأرض، فحقت عليهم الذلة. وقال تعالى في ما يترتب على تثاقلهم، وهو أن يكونوا قد تركوا الجهاد ورضوا بالمتاع القليل، وتركوا متاع الآخرة الكثير، فقال تعالى: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}، استفهام للاستنكار التوبيخي، ومعناه أنكم إذا أثقلتم عندما دعيتم إلى النفور في سبيل الله فقد رضيتم بأن تكون لكم الحياة الدنيا التي هي الدنية {مِنَ الآخِرَةِ}، من هنا بمعنى بدل، أي رضيتم بالدنيا ونعيمها الزائل بدل الآخرة، ونعيمها المقيم الدائم. ولذا قال مقررا الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة، فقال تعالت كلماته: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}. (الفاء) هنا للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره، إذا كنتم رضيتم ذلك فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قدر قليل ضئيل، وهنا إشارات بيانية نذكرها. أولها – في التعبير ب {أثقلتم} فإن الصيغة بحالها من الإبدال في لفظها دالة على استثقال النفور في سبيل الله، وما ذلك شأن المؤمنين المجاهدين الذي سبق لهم البلاء في الإسلام، ولهم في الجهاد سابقات كرام. الثانية – في النفي والإثبات في قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} فإنه يفيد قصر متاع الدنيا، مهما يكن من إحساس وراحة بالنسبة للآخرة ما هو إلا قليل. ولم يذكر متاع الآخرة لكثرته، لأن الإيمان بها في ذاته سعادة غير محصورة، فهي علو في أدراك النعيم المقيم الثابت الدائم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في هذه الآيات: (1) تنديد وعتاب موجه للمسلمين على تثاقلهم وعدم نشاطهم حينما يدعون إلى النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. (2) وسؤال على سبيل الإنكار والعتب عما إذا كانوا قد رضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، مع أن مدة الحياة الدنيا ومتاعها بالنسبة للآخرة قليلة تافهة. (3) وإنذار لهم بأنهم إذا لم ينفروا يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم. ولغضبه واستغنائه عنهم واستبداله إياهم بغيرهم، وهو القادر على كل شيء، ولن يضروه شيئا. (4) وتذكير منطو على العتاب والتحدي: فإذا لم ينصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلبوه فإن الله ناصره وكفى به نصيرا. وهو الذي نصره حينما اضطره الكفار إلى الخروج فخرج ليس معه إلا صاحبه ولبثا في الغار. وقد ألم بصاحبه الخوف والحزن فهتف به لا تحزن إن الله معنا. وقد أنزل الله عليه سكينته وأيده بجنود لم يرها أحد. ثم كان من أمره أن أظهره الله على جميع أعدائه حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى. (5) وتعقيب على هذا كله بأمر المسلمين بالنفرة خفافا وثقالا على كل حال وبأي إمكان وصورة وبدون أي اعتذار وتعلل وبالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فذلك خير لهم لو كانوا يعلمون. تعليق على الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ...} والآيات الثلاث التي بعدها، وما فيها من صور وتلقين، وما روي في صددها من روايات، وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها والمفسرون (1)، متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك، وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك. ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية (29) وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك. وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق. والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب. ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا. واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (4)} (1). أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة. والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع؛ حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم؛ حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله. إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين. وغزوة تبوك التي قلنا: إن المتفق عليه أن معظم هذه السور نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع، وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني. ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس. وقد سمي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلا هذه الغزوة؛ حيث صرح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم (1). وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع؛ حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا، ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل. وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على 2000 بعير و 800 رأس رقيق و 400 درع و 400 رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب له كتاب عهد...
. وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاءه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام. والمستفاد من الروايات أن المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون – والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام – ليس أقل العسكرين، ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم كان نحو ثمانين (1). والرواية السابقة التي شك فيها ابن إسحاق بحق لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون. ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول. وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة؛ لأن المستفاد من الآية أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدودو العدد دائما. ونكتفي بهذه الخلاصة على أن شرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها. ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} (91) لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} (122). ومع أن الآية في مقامها هي في معرض التثريب على المتثاقلين والتحريض على النفرة فإن في الآيتين المذكورتين تعديلا أو استدراكا لحكم الآية من الناحية الموضوعية كما هو المتبادر. هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية (40) حديثا عزاه إلى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) حيث يحتوي الحديث تنبيها على وجوب إخلاص القتال في سبيل الله.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومن هذا الموضوع انتقلت الآيات الكريمة إلى الحديث عن غزوة تبوك وما أحاط بها من ظروف وملابسات، وما لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عراقيل وعقبات، أثناء استعداده لها وعند خروجه لملاقاة الروم أعداء الإسلام، الذين كانوا يتربصون به الدوائر في الشام، قال تعالى: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} – {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} – {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}...
وبعد أن طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يواجهوا الباطل جميعا، كما يجتمع الباطل عليهم ويقاتلهم جميعا. يقول سبحانه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)}: وساعة تسمع {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فهذا نداء خاص بمن آمن بالله؛ لأن الله لا يكلف من لم يؤمن به شيئا، فلا يوجد حكم من أحكام منهج الله فيه تكليف لكافر أو غير مؤمن. ولكن أحكام المنهج موجهة كلها للمؤمنين. ولذلك ساعة تسمع: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} تعرف أ الله يخاطب أو يأمر من آمن به، لأنك أنت الذي آمنت باختيارك، ودخلت على الإيمان برغبتك، فالحق سبحانه لم يأخذك إلى الإيمان قهرا، ولكنك جئت للإيمان باختيارك، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لك: ما دُمْتَ قد آمنت بي إلها قادرا قَيّوما، له مطلق صفات الكمال، فاسمع مني ما أريده لحركة حياتك. ولا يحسب أحد أنه قادر على أن يدخل في الإيمان ولا ينفذ المنهج، ولا يحسب أحد أنه قادر أن يضر الله شيئا، وسبق أن ضربنا المثل بالمريض الذي يختار أبرع الأطباء، ولم يجبره أحد على أن يذهب إليه، وأجرى الطبيب الكشف على المريض، وحدد الداء وكتب الدواء، ولكن المريض بعد أن خرج من العيادة أمسك بتذكرة الدواء ومزقها، أو أنه اشترى الدواء ولم يتناوله. أيكون بذلك قد عاقب الطبيب أم عاقب نفسه؟ إن الطبيب لن يتأثر ولن يضره شيء مما فعله هذا المريض، ولكنه هو الذي سيزداد عليه المرض ويقود نفسه إلى الهلاك، وكذلك الإنسان إن لم يتبع منهج الله، فإنه يضع نفسه ويُغرقها في الشقاء، لأن الحق سبحانه قد وضع هذا المنهج وفيه علاج لكل أمراض الإنسان، فإن عمل به الإنسان نجا من بلاء الدنيا، وإذا عمل به مجتمع لن يظهر فيه الشقاء. بل يمتلئ بالرخاء والطمأنينة، ومن لم يعمل به فلن يضر الله شيئا، بل يحصل على الشقاء ويهلك نفسه. وحين يخاطب الله سبحانه الذين آمنوا يوضح: خذوا مني هذا التكليف ففيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولهذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى لا يذكر أمرا من أوامره بأي تكليف أو نهيا من نواهيه، إلا مسبوقا بقوله سبحانه: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} مثل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام... (183)} (البقرة) وقوله سبحانه: {يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص... (178)} (البقرة). وهذه التكليفات لم تأت مبينة للمعلوم، فمن الذين يكتب؟ إنه الحق سبحانه، كما أنها صيغة مبينة لما لم يُسَمَّ فاعله، أي: أن الكتابة أتت من كثير. ونقول: صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب، فلماذا لم يقل: يأيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم. ولماذا يقول: { {يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام}؟. ونقول: لأن الله وإن كان قد كتب، إلا أنه لم يكتبها على كل خلقه، بل كتبها على الذين آمنوا به، وأنت بإيمانك أصبحت ملتزما بعناصر التكليف، فكأن الحق سبحانه لم يكتب ثم يلزمك، ولكن التزامك في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في الإيمان. وبذلك تكو كل هذه الأحكام قد كُتبت عليننا باختيار كل منا، فمن لم يَخْتَرْ الإيمان ليس مكتوبا عليه أن ينفذ أحكام الإيمان، لأنها لا تُنفذ إلا بالعقد الإيماني بيننا وبين الحق سبحانه؛ وقد احترم سبحانه دخولنا في هذا العقد، فلن ينسبه لذاته العلية فقط، بل شمل أيضا كل مَنْ دخل في الإيمان. ولذلك فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من الله، نقول له: إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي كَلَّف. ثم إن معرفة الحكمة لا تكون إلا من المساوي للمساوى، فإن ذهب المريض إلى الطبيب وكتب له الدواء، وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده؛ فالطبيب يرفض المناقشة، ويقول للمريض: ادخل كلية الطب واقْضِ فيها سبع سنوات، واحصل على الدرجات العلمية، ثم تَعالَ وناقشني. إذن: فأنت تربط على التكليف بأمر المكلف، مع أن المكلف من البشر قد يخطئ. أما إذا جئننا بمجموعة من الأطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه؛ ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون، فكل منهم يقبل مناقشة الآخر، لأنه مُساوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره، لكن إنْ أردت أن تسأل عن الحكمة في تكليف من الله فلن تجد مساويا لله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المناقشة مرفوضة. إذن: فالمكلف لابد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف، ومنزلة الحق أنك آمنت به، ولهذا أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانيا، فإذا قيل: إن الله فرض الصوم حتى يشعر الغني بألم الجوع؛ ليعطف على الفقير، نقول: لا، وإلا سقط الصوم عن الفقير؛ لأنه يعرف ألم الجوع جيدا. وإذا قيل لنا: إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا. نقول: إن هذا غير صحيح، وإلا لما أسقط الله فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر... (158)} (البقرة). فإذا كان الله قد أباح للمريض أن يفطر، فكيف يأتي إنسان ويقول: إن علة فرض الصوم هي شفاء الأمراض؟ كما أن هناك بعض الأمراض لا يُسمح معها بالصوم. إذن: فنحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم، ومادام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أنه القول صادر من الله سبحانه، ولا شيء غير ذلك فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيمانا، مثلما ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للإنسان؛ لأن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي يأكلها مع القمامة، ونحن لا نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب، بل نمتنع عن أكله لأن الله قد أمرنا بذلك، ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قلَّلَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم الخنزير؛ لأننا نأخذ التكليف من الله، وليس من أي مصدر آخر. ونعود إلى خواطرنا حول الآية الكريمة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ}، ونجد كلمة: {ما لكم} تأتي حين نتعجب من حال لا يتفق مع حال، وكأن حرب المؤمنين للكفار أمر متوقع وتقتضيه الحال؛ لأن المؤمنين حين يقاتلون الكفار إنما يدخلون شيئا من اليقين على أهل الاستقامة، فأهل الاستقامة إن لم يجدوا من يضرب على أيدي الكافرين فقد ينحرف منهم من تراوده نفسه على الانحراف، أما إن وجد من يضرب على أيدي الكفار، فإنه بفعله هذا يربب في المؤمن إيمانه؛ لأنه يرى عدوه وهو يتلقى النكال. كأن تقول للتلميذ: ما لك تهمل في مذاكرتك وقد قَرُبَ الامتحان؟ أي: أن المفروض إذا قرب الامتحان لابد أن يجتهد الطالب في المذاكرة. فإن أهمل التلميذ عمله فنحن نتعجب من سلوكه؛ لأنه لا يتفق مع ما كان يجب أن يحدث. وبذلك نستنكر أن يحدث مثل هذا الإهمال، مثلما نستنكر ونتعجب من مريض يترك الدواء بينما هو يتألم. ويتعجب الحق سبحانه هنا من تثاقل المؤمنين حين يُدْعَوْنَ إلى القتال؛ لأن قوة الإيمان تدعو دائما إلى أ يكون هناك استعداد مستمر للقتال، وهذا الاستعداد يخيف الكفار ويمنع عدوانهم واستهتارهم بالمؤمنين أولا، كما أنه ثانيا يجعل المؤمنين قادرين على الرد والردع في أي وقت. ويعطي ثالثا شيئا من اليقين للمجتمع المؤمن عندما يرى أن هناك من يضرب على يد الكافرين إذا استهانوا بمجتمع الإيمان وحاولوا أن يستذلوا المؤمنين. إذن: فَلِكَيْ يبقى المجتمع المؤمن قويا وآمنا، لابد أن يوجد استعداد دائم للقتال في سبيل الله ورغبة في الشهادة، وهنا يقول الحق: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فكأن الاستعداد المستمر للقتال في سبيل الله أمر لابد أن يوجد بالفطرة وبالعقل، فإذا ضَعُفَ هذا الاستعداد أو قلَّ صار هذا الأمر موطنا للتعجب؛ لأن المؤمنين يعرفون أن مجتمع الكفر يتربص بهم دائما، وعليهم أن يكونوا على استعداد دائم مستمر للمواجهة، ويستنكر الحق أن يتثاقل المؤمنون إذا دُعوا للقتال في سبيل الله أو أن يتكاسلوا. وقوله سبحانه: {انْفِرُوا} من "النفرة "وهي الخروج إلى أمر يهيج استقرار الإنسان، فحين يكون الإنسان جالسا في مكانه، قد يأتي أمر يهيجه فيقوم ليفعل ما يتناسب معه الأمر المهيج، فأنت مثلا إذا رأيت إنسانا سيسقط في بئر، فهذا الأمر يهيجك، فتنطلق من مكانك لتجذبه بعيدا، ومنه النُّفْرة التي تحدث بين الأحباب الذين يعيشون في وُدٍّ دائم، وقد يحدث بينهم أمر يُحوّل هذا الود إلى جَفْوة. إذن: فكلمة {انْفِرُوا} تدل على الخروج إلى أمر مهيج، وهو المنطق الطبيعي الذي يجب أن يكون؛ لأن عمل الكفار يهيج المؤمنين على مواجهتهم. وقول الحق سبحانه: {انْفِرُوا} يدل على الاستفزاز المستمر من الكفار للمؤمنين. ويقول الحق تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ}. والثقل معناه: أن كتلة الشيء تكون زائدة على قدرة من يحمله، فإن قلت: إن هذا الشيء ثقيل فهذا يعني أن وزنه مثلا أكبر من قوة عضلاتك فلا تستطيع أن تحمله. أما التثاقل فهو عدم موافقة الشيء لطبيعة التكوين. كأن تقول: فلان ثقيل أي وزنه ضخم ولا يستطيع أن يقوم من مكانه إلا بصعوبة، ولا أن يتحرك إلا بمشقة. ولكن التثاقل معناه تكلف المشقة، أي: لك قدرة على الفعل، ولكنك تتصنع أنك غير قادر، كأن يكون هناك – على سبيل المثال – شيء وزنه رطل، ثم تدَّعي أنه ثقيل عليك ولا تستطيع أن تحمله. إذن: فقوله تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ} أي: تكلفتم الثقل بدون حقيقة، فأنتم عندكم قدرة على القتال ولكنكم تظاهرتم بأن لا قدرة لكم. وهكذا نعرف أن الموقف يقتضي النفرة ليواجهوا الكفر، لأن المنهج الذي ارتضوه لأنفسهم والتزموا به يحقق السلامة والأمن والاطمئنان لهم ولغيرهم، وكأن التثاقل إلى الأرض له مقابل، فالنفرة تكون في سبيل الله، والمقابل في سبيل الشيطان أو في سبيل شهوات النفس. لقد تحدث العلماء في المسائل التي تجعل الإنسان يُقبل على المعصية، وهي النفس التي تُحدّث الإنسان بشيء، فالإنسان يقبل على المعصية بهذين العاملين فقط. فما الفرق بين الاثنين؟ وكيف يتعرف الإنسان على ذلك؟ قال العلماء: إذا كانت النفس تُلِحُّ عليك أن تفعل معصية بعينها بحيث إذا صرفتها عنها عادت تُلحُّ عليك لاقتراف المعصية لتحقق متعة عاجلة، فهذا إلحاح من النفس الأمّارة بالسوء. ولكن الشيطان لا يريد منك ذلك، إنه يريدك مخالفا لمنهج الله على أي لون، فإذا استعصى عليه أن يجذبك إلى المال الحرام، فهو يزين لك شهوة النساء، فإذا فشل جاء من ناحية الخمر. إذن: فهو يريدك عاصيا بأي معصية، ولك النفس تريدك عاصيا بنفس المعصية التي تشتهيها. وهذا هو الفرق. وهكذا نعرف أن هناك واقعين، واقعا يدعو المؤمنين إلى قتال الكفار الذين يفسدون منهج الله في الأرض، وواقعا يدعوهم إلى أن يتثاقلوا عن هذا القتال، وذلك إما بسبب جب الدنيا لتحقيق شهوة النفس أو إغراء الشيطان، ولذلك يقول الحق سبحاه وتعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} والرضا هو حب القلب، فيقال: فلان راضٍ لأنه مسرور بالحال الذي هو فيه. ومعنى تثاقل المؤمنين عن القتال في سبيل الله، أن هناك شيئا قد غلب شيئا آخر في داخل نفوسهم، فالرضا بالحياة الدنيا قد تغلَّبَ على حب الآخرة. ولكن المنطق الإيماني يقول: إنه إذا كان هناك أمر آخر غير الدنيا، أو حياة أخرى غير حياتنا الدنيوية، فلابد أن نقارن بين ما تعطيه الدنيا وبين ما تعطيه الآخرة، فإذا رضينا بما تقدمه لنا هذه الحياة المادية، يكون المؤمن طموح وبلا ذكاء، لأنه رضي بمتاع قليل زائل وترك متاعا أبديا ممتدا بقدرة الله. وأنت لو نظرت إلى الدنيا نظرة فاحصة، تجد أنها متغيرة متبدلة، فالصحيح يصبح مريضا، والغني يصبح فقيرا، والقوي يصبح ضعيفا. إذن: فمتاع الدنيا متغير ولا عصمة لك فيه، وأنت لا تستطيع أن تعصم نفسك من المرض أو من الضعف أو من الفقر، لأن هذه كلها أغيار تحكمك ولا تحكمها أنت؛ تقهرك ولا تستطيع أنت أن تقهرها. فإن رضيت بمتاع الدنيا اليوم فأنت لا تضمن استمراره إلى الغد. ولهذا ينبغي ألا تؤخر تنفيذ ما يكلفك الله به، لأنك الآن تستطيع أن تؤديه، لكن أنت لا تضمن إن كنت قادرا غدا أم لا. كذلك لا تأخذ التكليف على أنه قد يسلبك حريتك أو مالك، بل هو يسلبك ويعطيك في نفس الوقت. فإذا أمر الله سبحانه بأن تُخرج الزكاة، قد تعتقد أن هذا يُنقص مالك، أو تقول: هذه غرامة. نقول: إن هذا في ظاهر الأمر قد يكون صحيحا، ولكنه سبحانه يأخذ منك هذا المال فيزيده لك ويُنمّيه فإذا بالجنيه الواحد قد تضاعف إلى سبعمائة مثْل، ثم تضاعف إلى ما شاء الله، كما أن هذا الحكم الذي يأخذ منك الآن وأنت غني هو بذاته الذي سوف يعطيك إن افتقرت ولجأت إلى الناس. فإذا كان الحكم الذي سيأخذ هو الذي سيعطي تكون هذه عدالة وتأمينا ضد الأغيار، وعليك أن تقارن بين الصفقة النفعية بمقابلها، وساعة تعطي أنت الذي لا يملك، لابد أن تتذكر أنه قد يأتي عليك يوم لا تملك فيه. وكلمة دنيا بالنسبة لحياتنا أعطتنا الوصف الطبيعي الذي ينطبق عليها، لأن "الدنيا" مقابلها "العليا". والحياة العليا تكون في الآخرة. فإذا كانت هذه هي الحياة الدنيا. فلماذا تربط نفسك بالأدنى إلا أن يكون ذلك خَوَرًا في العزيمة؟. والمثال للقوة الإيمانية هو: سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكان قبل أن يصبح خليفة المؤمنين يرتدي أفخر الثياب ويتعطر بأجمل العطور، وكان الناس يدفعون أموالا لمن يغسل ثياب عمر بن عبد العزيز ليدخلوا ثيابهم مع ثيابه حتى تمتلئ عطرا. وذلك من غزارة وجود العطر الذي كان يضعه عمر بن عبد العزيز على ثيابه فتخرج كل الثياب مليئة بالعطر. وعندما أصبح عمر بن عبد العزيز خليفة، كانوا يأتونه بالثوب الخشن الذي كان يرفض ارتداءه قبل الخلافة، فيرفضه ويقول: هاتوا أخشن منه، وامتنع عن العطر، أي: أن معاييره قد تغيرت وليس في هذا أدنى تناقض، بل هو علو في الحياة، ولذلك قال: اشتاقت نفسي إلى الإمارة فقلت لها: اقعدي يا نفْسُ، فلما نلْتُها اشتاقت نفسي إلى الخلافة فنهيتها عن ذلك، فلما نلْتُها؛ أي نال الخلافة، اشتاقت نفسي إلى الجنة فسلكتُ كل طريق يؤدي إليها. وهكذا نعرف أن سلوكه رضي الله عنه لم يكن في تناقض بل تعلية للتصفية الإيمانية. كان دائما في علو يريد أن يواصله، فقد اشتاق أولا إلى الإمارة، فلما تحققت أراد أن يعلو فاشتاق إلى الخلافة، فلما تحققت أراد أن يعلوَ فاشتاق إلى الجنة، إذن: فهو دائما في عُلُوٍّ. وأقول: ليس في سلوكه أدى تناقض، لأن علماء النفس يفسرون التناقض في السلوك البشري على أنه اختلاف في المقارنة، فالإنسان يقارن بشيء ثم يقارن بشيء آخر وهكذا، لأن كل شيء في الدنيا نسبي. ومعنى النسبية أن ينسب الشيء لما حوله، فإذا قلت: إنني أسكن فوق فلان، فأنت في نفس الوقت تسكن تحت فلان الذي يعيش في الطابق الذي يعلوك. إذن: فأنت فوق فلان وتحت فلان في نفس الوقت، فلا تأخذ نقطة وتغفل عن الأخرى، وهذا اسمه" معنى إضافي "أي: أن المعاني لا تتحقق بذاتها، ولكن بالنسبة إلى شيء تقاس به، وكذلك المقاييس بين الأشياء يجب أن نقيسها بالأمور التي تُصعد لك القيمة. فأنت إذا نظرت إلى الدنيا؛ تجد أن الحق سبحانه أسماها: دُنْيا ولم يجد اسما أقلَّ من هذا ليسميها به، لماذا؟ لأنك تتنعم في الدنيا على قدر وجودك فيها، أي على قدر عمرك، وهو مهما زاد وطال فهو سنوات معدودة، وقد يكون متاعك منها حتى سن الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين. أو أكثر من ذلك أو أقل. ومتاعك فيها بما تحققه قدراتك، فالذي عنده ألف جنيه يتمتع على قدرها، والذي عنده عدة ألوف متاعه على قدرها، وصاحب الملايين متاعه أكبر. إذن: فكل واحد يتمتع بقدر ما عنده من مال. وحتى إن وصل الإنسان إلى أعلى متاع في الدنيا؛ متاع صاحب الملايين؛ فهذه الملايين إما أن تزول عن صاحبها، وإما أن يترك هو هذه الملايين بالموت. وهذه تتحقق وهذه تتحقق. إذن: فنعمة الدنيا إنا أن تنخلع منك أو تنخلع أنت منها. فإذا جئت إلى المقابل وهو الآخرة تجد أن النعيم فيها دائم لا يزول عنك، وأنت خالد لا تزول عن النعمة بالفناء أو الموت، وأنت لا تتمتع في الآخرة بقدراتك أنت، بل بقدرة الله سبحانه. فكأن المتاع أكبر كثيرا من قدرتك، وأعلى كثيرا من كل ما تستطيع أن تحققه. فمثلا: إن كان معك ريال وجاءك رجل فقير فأعطيته له ليأكل به، تكون في ظاهر الأمر قد آثرت الفقير على نفسك؛ لأنك أعطيته كل ما تملك ليأكل به وحرمت نفسك منه، ولكنك في الحقيقة فضَّلْتَ نفسك على الفقير، لأنك أعطيته هذا الريال ليكون عند الله عشرة إلى سبعمائة ضعف، فمَنْ منكما الذي استفاد؟ ومَنْ منكما الذي انتفع؟ إنه أنت. ولذلك نجد أن الدين الصحيح ضد الأنانية الحمقاء، ويُعْلي فيك الأنانية العاقلة بأن يجعلك تحب نفسك حبا أعلى. فأنت حين تتصدق تحب نفسك، ولذلك تريد أن تعطيها الأعلى والأنفع. فظاهر الأمر أنك أعطيت، وفي حقيقته أنك أخذت. وأنت حين تعطي إنسانا مساويا لك كأن تقدم له هدية في مناسبة معينة، تنتظر أن يرد إليك هذه الهدية بمثلها في مناسبة أخرى. إذن: فالعطاء مُتساو، وقد يرد هذا الإنسان الهدية، وقد لا يردها. وقد ينوي ردها ولكن تصادفه ظروف لا تمكنه من أن يردها لك. لكن الحق سبحانه يقول: {مَنْ ذا الذي يُقرض الله قرضًا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة... (245)} (البقرة). إذن: فحينما تعطي ابتغاء وجه الله فأنت لا تحصل على عطاء مُساو لما أعطيت. لكنك تحصل على عطاء مضاعف أضعافا مضاعفة. والذي يعطيك الثواب هو الله سبحانه وتعالى دائم الوجود، ولن ينفذ عطاؤه لك؛ لأنه دائم القدرة، ولن يأتي عليه وقت يكون غير قادر على أن يرد لك ما أعطيت؛ لأن عنده كنوز السماوات والأرض، وهو سبحانه قادر على أن يضاعف لك مهما كانت قيمة عطائك. فإن فضَّلْتَ الحياة الدنيا على الآخرة، فأنت تقيس بمقاييس الكمال عندك وهي مقاييس ساقطة وهابطة، ولو كنت تملك المقياس الصحيح لعرفت أن الذي يحقق لك النفع الأكبر هو أن تعطي وتعمل طلبا للآخرة وليس للدنيا. ولذلك فالحق سبحانه يقول هنا: {أَرَضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} أي: أنكم أردتم الحياة الدنيا بدل الآخرة. وهذه مقارنة غير عاقلة وغير حكيمة. وكلمة {من} تدل على البدل في قوله: {بالحياة الدنيا} ومادة البدل والاستبدال البيع والشراء، ونعرف أن الباء تدخل على المتروك، فأنت تقول: اشتريت الشيء بكذا درهم، أي: تركت الدرهم مقابل شرائك الشيء، كأن هؤلاء الراضين بالحياة الدنيا قد أخذوا الدنيا بدلا من الآخرة، وهذه صفقة تخلو من العقل والحكمة. وبعد أن استنكر الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يرضوا بالحياة الدنيا ويتركوا الآخرة يقول سبحانه: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} والمتاع: هو ما يستمتع به. والإنسان لا يستطيع أن يوقن أنه سيستمتع بالحياة، وهذا أمر مطعون فيه، فليس كل كائن حي مستمتعا بالحياة، هناك أشقياء وهناك تعساء، وهناك من حياتهم كلها تعب، وحتى أولئك المستمتعون بالحياة في الحاضر، من يُدريهم ماذا يحمل لهم المستقبل؟ ألا يمكن أن يكون استمتاعهم هذا وقتيا؟ ألا يمكن أن يأتيهم ظرف من الظروف؛ أو قدر من الأقدار يملأ حياتهم بالشقاء؟. إننا نجد العقلاء –حين يرون في نعمة الله عليهم ما يكدر حياتهم- يشكرون الله، بينما نجد الإنسان السطحي التفكير والفهم يستاء وينفعل ويزيد الموقف معاناة. العاقل – إذن – يعرف أن الإنسان يعيش في دنيا أغيار، ومعنى أنا نعيش في دنيا أغيار أنه تأتي أحداث تنقلنا من حال إلى حال، أي من الغنى إلى الفقر. أو من الصحة إلى المرض إلى غير ذلك من أحوال الدنيا المتقلبة المتغيرة، ففي الدنيا لا يدوم حال، وما دامت الدنيا أغيارا؛ فأحوال الناس تتغير فيها دائما. وهَبْ أن إنسانا وصل إلى القمة التي لا يوجد أعلى منها. نقول له: لا داعي أن يأخذك الفرح والكبر والخيلاء، ولا تنس أنك تعيش في دنيا أغيار، وأن دوام الحال من المحال، فلو دامت لغيرك ما وصلت أنت إلى القمة؛ لأن مَنْ كان عليها سقط فصعدت أنت. إذن: فمعنى هذا أنك وإن وصلت للقمة فلن تثبت عليها وتبقى هكذا بلا تغيير. وما دمت قد وصلت إلى أعلى ما يمكن، فالتغيير الوحيد الذي يمكن أن يحدث لك هو أن تنزل؛ لأنك وصلت إلى قمة الصعود، ولم يَعُدْ بعدها شيء تصعد إليه. فالتغيير المتوقع لا يكون إلى أسفل، ويقال:"ترقَّبْ زوال إذا يقل تَمّ"، ولهذا نجد أهل الحكمة والبصيرة يقولون: إن المصائب في الأموال والأنفس من تمائم النعمة، وكأن الحق لا يريد أ يتمم النعم؛ لأنها إن تمت تزول؛ لأن المصيبة ما دامت قد حدثت فلابد أن تزول. وسبحانه حين يقول: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاَّ قليل} يريد أن يبين لنا أن متاع الآخرة أكبر، فأنت حين تقول: شيء في شيء. فأيهما يكون أكبر؟ إنه الذي يدخل فيه الشيء الآخر، فإذا قلنا: فلان في البيت، فمعنى ذلك أن البيت أكبر من فلان هذا، وإلا لما احتواه داخله. وإن قلنا: محمد في جدة أو في المملكة السعودية أو في مصر، يكون هناك ظرف ومظروف، والمظروف عادة أوسع من الظرف، وسعته كبيرة لدرجة أنها تحيط بالظرف من كل جوانبه. وقول الحق سبحانه وتعالى: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاَّ قليل} معناه: أن متاع الدنيا يتوه في متاع الآخرة، لأن متاع الآخرة أوسع ويحتوي متاع الدنيا ويزيد، وما دام الكلام بقدرة الله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أن سعة متاع الآخرة بالنسبة لمتاع الدنيا لا نهائية. فإذا زاد الحق سبحانه وقال: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاَّ قليل} فهو لإعطاء صورة لسعة متاع الآخرة. لكن هذا الاستثناء في قوله تعالى {إلاّ قليل} إنما هو لمخاطبة العقول بالنسبة لقمة المتمتعين فير الدنيا. ومثال هذا: أنك تجد إنسانا قد أعطاه الله قمة متاع الدنيا، وتجد يعتقد أن المتاع لا يمكن أن يزيد على ما وصل إليه، فيوضح الحق سبحانه وتعالى له: لو أنك متمتع بكل ما تستطيع أن تعطيه لك الدنيا فهو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل. وإذا كان غير المتمتع بشيء من متاع الدنيا ينظر إلى مَنْ أعطاه الله سبحانه وتعالى قمة متاع الدنيا ويتساءل: هل هناك متاع أكثر من ذلك؟ إن هذا الإنسان متمتع بكذا وكذا وكأنه يعيش في الجنة، ولا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك متاع أكبر من هذا. نقول له: لا، إن ما تحسبه نهاية لما يمكن أن يتمتع به الإنسان هو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل. إذن: فقوله سبحانه {إلاّ قليل} ليس مقصودا به المتعة العادية للدنيا التي يتمتع بها الناس، ولكن المقصود به متاع القمة الذي لا يصل إليه ولا يحدث إلا لأفراد قليلين في العالم. فقد يعيش إنسان في قصر ضخم، وحوله المئات من الناس يخدمونه، وعنده من الأجهزة الإلكترونية وغيرها ما يجعله بمجرد أن يريد شيئا يضغط على زر صغير فيجد ما يريده أمامه، وكل شيء حوله يحقق له رغباته، بل إنه يعيش في درجة الحرارة التي يريدها داخل قصره، وعنده أفخر أنواع الطعام والشراب، وإذا أراد أن ينتقل من مكان إلى آخر، ضغط على زر فيتحرك به الكرسي إلى المكان الذي يريده، وكل مَن، ْ حوله يطيعونه طاعة عمياء، فكل رغباته أوامر، وحياته تشبه الحلم الجميل. إذا عاش إنسان في هذا الجو وانبهر بهذه النعم كلها يستوقفه رب العزة سبحانه ويوضح له: لا تنبهر، فهذا المتاع الذي تعيش فيه بالنسبة للآخرة قليل. فإذا قرأ الناس أو سمعوا أو شاهدوا ما يعيش فيه هذا الإنسان من متعة وانبهروا بها، يوضح لهم الله: لا تنبهروا ولا يأخذكم العجب، فكل هذا الذي ترونه أمامكم بالنسبة لمتاع الآخرة قليل. إذن: فقوله سبحانه: {إلاّ قليل} يدل على أن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تحب القليل من النعم بل تريد الكثير، ولهذا نجد الحق سبحانه وتعالى يُنفّر عباده من أن تفتنهم نعم الدنيا مهما بلغت، فيوضح لهم: لا تظنوا أن هذه النعم كثيرة، بل إنها قليلة بالنسبة لما ينتظركم في الآخرة، فإذا كان الإنسان بفطرته يحب كثرة النعم، ففي هذه الحالة لن تفتنه نعم الدنيا، بل سوف يطلب نعم الآخرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن ابن آدم أعطي واديا ملآن من الذهب أحبَّ إليه ثانيا، ولو أعطي ثانيا أحب إليه ثالثا". أي: أن الإنسان الذي امتلك واديين يريد أن يحتفظ بالواديين كما هما ويطمع في امتلاك الوادي الثالث، رغم أنه قد لا يعيش لينفق مقدار واد واحد. فالإنسان بطبعه لا يحب القليل من النعم بل يطلب الكثير، لماذا؟ لأن كثيرا من الناس ينسون الآخرة، ويعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، ولهذا تجد الإنسان منهم يريد أن يحتاط لنفسه، فإذا أخذ ما يكفيه يريد أن يحتاط لأولاده، فإذا كان عنده ما يكفيه هو وأولاده يريد أن يحتاط لأحفاده. ولكن المؤمن الحق هو من يعرف أن الحياة الدنيا طريق العبور إلى الآخرة، وأنها رحلة قصيرة تنتهي، فلا يهتم بهذا اللون من الاحتياط، ولكن الذي يحرص على عملية الاحتياط هو من يظن أن الحياة الدنيا هي الغاية من الخلق، ولا يتنبه إلى أنها وسيلة للآخرة. إننا نجد أولئك الذين يسرفون على أنفسهم ويتبعون شهواتهم وهم يحاولون أن يأخذوا من الدنيا كل شيء يمك أن تعطيه لهم حلالا أو حراما، وهذا واضح في سلوكهم الدنيوي. أما المؤمن فهو كالطالب الذي يَجدُّ في دروسه ويستيقظ مبكرا ويذهب إلى المدرسة، ويظل ساهرا ليذاكر ويحرم نفسه من مُتع كثيرة، لأنه بفطنته وذكائه يعرف أن هذا حرمان مؤقت. وهو إنما يفعل ذلك لفترة قصيرة ليستريح بقية العمر، ويحصل على المركز المرموق والدخل المرتفع إلى آخر ما يمكن أن يعطيه له المستقبل. أما المسرف على نفسه فهو كالطالب الذي لا يذهب إلى المدرسة ويقضي وقته في اللعب والاستمتاع، وهو بمثل هذا السلوك كان قصير النظر، وأعطى لنفسه شهوة عاجلة ليظل في معاناة بقية حياته. إذن: فكل من الطالبين أعطى نفسه ما تريد؛ الأول: أعطى نفسه مستقبلا مريحا ممتدا، وصار قمة من قمم المجتمع، والثاني: أعطى نفسه متعة عاجلة زائلة، ثم صار بعد سنوات قليلة صعلوكا في المجتمع لا يساوي شيئا. إذن: فإياك أن تنظر تحت أقدامك فقط؛ لأن العالم لا ينتهي عند موقع وقوف قدميك هاتين، ولكنه ممتد إلى آفاق بعيدة، فإذا نظرت إلى هذه الآفاق، فلا يليق بك أن تختار متعة وقتية قليلة. وقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)} (التوبة)، نزل في غزوة تبوك، وهي أول غزوة للمسلمين مع غير العرب، وسبقتْها كل المعارك بين المسلمين وبين الكفار والمشركين، ودارت على أرض الجزيرة العربية معارك مع المشركين في بدر أو في مكة، أو مع اليهود في مجتمع المدينة، فقد كانت هذه معارك في محيط الجزيرة العربية، ولكن غزوة تبوك كانت مع الروم على الحدود الشمالية للجزيرة العربية. وحينما بدأ تجهيز الجيش ليذهب إلى تبوك لمحاربة الروم تثاقل المسلمون. وهنا يبرز استفهام: كيف يحارب المسلمون الروم، وهم الذين حين انتصر الفرس على الروم؟ أيحزن المسلمون لهزيمة الروم ثم يذهبون ليحاربوهم؟. نقول: نعم؛ لأن المواقف الإيمانية ليست مواقف في قالب من حديد، ولكنها تتكيف تبعا لمواقف الكفار من الإيمان والإسلام. ولذلك فإن المؤمن الحق ينفعل للأحداث انفعالا إيمانيا، وعلى سبيل المثال، نجد قلب سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه مملوءا رقة ورحمة، بينما قلب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مملوءا قوة وحزما، انظر إلى موقف الاثنين عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى؛ وارتد عدد من المسلمين عن الإسلام، ومنعوا الزكاة، وقرر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يحارب هؤلاء المرتدين، لأنهم أنكروا ركنا من أركان الإسلام، هنا وقف عمر بن الخطاب ضد رأي أبي بكر وقال: يا أبا بكر أنحارب أناسا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال أبو بكر: أجبار يا عمر في الجاهلية خوّار في الإسلام؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. وهكذا انقلبت المواقف؛ فالقوة والشدة ملأت قلب أبي بكر الذي كان مشهورا بالرقة والرحمة والعطف، بينما امتلأ قلب عمر باللين، وهو المشهور بالشدة والقوة. ولو أن عمر الذي قال كلمة أبي بكر لقالوا: شدة ألفها الناس من عمر. ولكن الناس قالوا عن عمر الشديد:"قد لانَ قلبه بينما اشتد قلب أبي بكر "هذه هي المواقف الإيمانية التي تملأ نفس كل مؤمن. فالذي يصنع موقف المؤمن هو إيمانه لا طبعه؛ ولذلك قال الحق في وصفه للمؤمنين: {فسوف يأتي الله بقوم يُحبهم ويُحبونه أَذلّة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين... (54)} (المائدة). وكيف يكون الإنسان عزيزا وذليلا في الوقت نفسه؟ وكيف يوصف الشخص نفسه بأنه عزيز وذليل؟ وكيف يمكن أن يجتمع النقيضان في شخص واحد؟ لكنك تقرأ ما يطمئنك في قول الحق: {محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رُحماء بينهم... (29)} (الفتح) لقد وصف الله سبحانه المؤمنين بأنهم أشداء، ووصفهم أيضا بأنهم رحماء، ولكي تفهم هذا المعنى عليك أن تعلم أن المواقف الإيمانية وهي التي تحدد مشاعر المؤمن، ولا تحددها طباعه الخاصة والشخصية، وهو يُكيّف مواقفه حسب الموقف الإيماني وما يتطلبه، فهو شديد ورحيم، وذليل وعزيز. ونعود إلى غزوة تبوك التي نزلت فيها الآية التي نتناولها بخواطرنا وإلى السؤال: كيف يحارب المسلمون الروم، وقد حزنوا يوم هزيمة الروم من الفرس؟ ونقول: لقد حزن المسلمون لأن إلحادا ينكر الألوهية قد انتصر على إيمان مرتبط برسالات السماء، ولأن الروم – وهم نصارى – مرتبطون برسالات السماء. ولذلك فهم أقرب إلى قلوب المؤمنين من الكفار، إذن: فالمسألة قد أُخذتْ من ناحية الوجود الإلهي. أما في غزوة تبوك فقد أُخذتْ من ناحية قبول المنهج الناسخ ومنع الدعوة له، ولهذا تحول الموقف في غزوة تبوك إلى عداء إيماني، وهذا هو السبب الذي أدَّى إلى الحرب. فإذا نظرنا إلى الغزوة نفسها نجد أن تبوك تبعد عن المدينة بمسافة كبيرة، ووقت الغزوة كان صيفا شديد الحرارة، كما أنها كانت بعد غزوة حنين، التي قاتل المؤمنون فيها قتالا شديدا. وكان العام عام عسرة، فلم يكن مع الجيش ما يكفيه من طعام أو خيل أو جمال. إذن: فقد اجتمعت المشقة في هذه الغزوة؛ مع حرارة الجو؛ وبُعْد المسافة، وكانت قوى المسلمين مُنْهكَة من غزوة حنين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج لغزوة، لا يخبر عنها أصحابه إلا عندما يصلون إلى مكان القتال؛ إلا هذه الغزوة فقد بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته قبل أن يغادروا المدينة، لكي يستعدوا للمشقة التي تنتظرهم. وتباطأ المسلمون، وبعضهم كان يستمتع بالجلوس في ظل البساتين الموجودة في المدينة ويأكل من ثمارها. واستطاب – هذا البعض – الثمار والظلال؛ لذلك تباطئوا في الذهاب إلى القتال، فنزلت هذه الآية ببيان اللوم، ثم جاءت الآية التي بعدها لتوضح وتُبيّن العقوبة. فقال الحق: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{اثَّاقَلْتُمْ}: التثاقل: تعاطي إظهار ثقل النفس. وهنا بمعنى: جذبتكم الأرض إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدكم إلى الأسفل. تعبئة المسلمين للقتال وتنفتح المعركة بين المسلمين والكافرين في ساحة المواجهة الحاسمة الصعبة في أكثر من صعيدٍ، ويبدأ الرسول الدعوة إلى الجهاد بأساليب عديدة، من أجل أن يتحوّل الموقف لدى المسلمين إلى ما يشبه حالة الاستنفار القصوى التي تجمع الجميع في خطّ المواجهة، لأنّ قضيّة الجهاد في الإسلام ليست من القضايا الجانبيّة التي تحتمل الوقوف منها موقف اللاّمبالاة أو الهروب، بل هي من القضايا المصيرية التي يجب أن يواجهها المؤمن بإيجابيّةٍ منفتحةٍ ومواقف ثابتةٍ، ولكن بعض المسلمين القلِقين في إيمانهم الضعفاء في إرادتهم، يحاولون التهرب من الانطلاق بعيداً في هذا الخط، خوفاً من نتائجه على الحياة، ويحاولون التماس الأعذار لأنفسهم في ذلك كله. وهذا هو الذي جعل القرآن يوجِّه إليهم اللوم والإنذار بشدّة، من أجل أن يثير فيهم مكامن الشعور العميق ليهزّها من الأعماق في عملية توعيةٍ وإيحاءٍ. فكيف عالج القرآن ذلك؟... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ} في النداء الذي يوجّهه رسول الله إلى المسلمين عند اشتداد المشاكل، وقسوة التحديات، وصعوبة الأوضاع الإسلامية، إذا دهمهم خطر يهددهم ويهدد وجودهم وحرّيتهم، فكان لا بدّ من مواجهته بالقوى المسلمة التي تتجمع في وحدة الموقف لتجابه ذلك كله في وقفة التحدي المضادّ الذي يصرخ بهم {انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} واخرجوا إلى الجهاد لتقاتلوا أعداء الله من أجل الحصول على رضاه في تحقيق إرادته في الحياة {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرضِ} فجذبتكم إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدّكُمْ إلى الأسفل، من الإخلاد إلى الأرض والاستكانة إليها، والاستسلام لقضاياها المادية، وقيمتها الحيوانيّة، والتطلع إلى شهواتها كغايةٍ تتطلع إليها الحياة، بعيداً عن كل عوامل السموّ والانفتاح التي تجعل الإنسان يحلّق في السماء حيث النور والخير والإيمان، كآفاق للحياة والحركة والانطلاق، في ما يوحيه ذلك من التمرّد على كلّ هذه الأثقال المادية التي تثقل قلبه وروحه وضميره، وفي ما يثيره في نفسه من معانٍ روحيّةٍ تمدّه بالإشراق والحب والإيمان. {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} واستسلمتم لها في عملية استبدال واقتناعٍ بنتائجها، كما لو كانت كل شيء في حركة الحياة {مِنَ الآخرةِ} أي بدلاً من الآخرة...
ميزان الدنيا في الآخرة ولكن ما هي النتائج الحقيقية الحاسمة، وما هو حجم هذا البدل في مقياس الأهداف؟ {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إذا نسب إلى نعيم الآخرة {إِلاَّ قَلِيلٌ} فإن متاع الدنيا زائل، أما نعيم الآخرة فباقٍ ما بقيت السماوات والأرض، فلا مجال للموازنة بينهما، لأن الميزان سيختلّ لمصلحة الآخرة ضد مصلحة الدنيا. وهكذا يريد القرآن للإنسان من خلال هذه الآية أن يفكر بالمسألة بعيداً عن الضغوط الخارجية في النتائج السلبيّة لتفضيل الدنيا على الآخرة في مواجهة النتائج الإيجابية على مستوى الربح الحقيقي في تفضيل الآخرة على الدنيا. ثم يثير المسألة من ناحية الوعيد، ليفكر في النتائج على مستوى ما يُقدم عليه من أوضاع العذاب في الآخرة ليحسب حساب المصير في دقّةٍ وعمقٍ وإيمان...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية -وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإِمام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير العام.- يجب أن يكون النفير في سبيل الله لا في سبيلٍ غير سبيله تعالى. -بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الآخرة.