فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

{ يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } لما شرح معائب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم ، والاستفهام في { ما لكم } للإنكار والتوبيخ ، أي أيّ شيء يمنعكم عن ذلك ، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة بعد رجوعه من الطائف بعد الفتح بعام ، وتبوك مكان على طرف الشام بينه وبين المدينة عشرة مراحل ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث وبعضهم يصرفه على إرادة الموضع ، فقد جاء في البخاري مصروفا وممنوعا منه ، وقصة هذه الغزوة في سيرة الحلبي مفصلة .

والنفر هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث ، يقال استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا استنفرتم فانفروا ) {[894]} ، والاسم النفير .

واثاقلتم معناه تباطأتم وعدي بإلى لتضمنه معنى الميل والإخلاد ، وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها عن الجهاد ، وقرئ أثاقلتم على الاستفهام ومعناه التوبيخ مع النفي .

{ أرضيتم } استفهام توبيخ وتعجيب { بالحياة الدنيا } أي بخفض العيش وزهرة الدنيا ودعتها ونعيمها بدلا { من الآخرة } كقوله تعالى : { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة } أي بدلا منكم { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة } أي محسوبا في جنبها وفي مقابلتها ، و ( في } هذه تسمى قياسية { إلا قليل } أي إلا متاع حقير لا يعبأ به لأن لذات الدنيا خسيسة في نفسها ومشوبة بالآفات والبليات ، ومنقطعة عن قرب لا محالة ، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن الآفات دائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا في جنب متاع الآخرة قليل .

ويجوز أن يراد بالقليل العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل إذ من البعيد أن يطبقوا جميعا على التباطؤ والتثاقل ، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل وهو كثير شائع ، وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأن الله سبحانه نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، فلو لم يكن منكرا لما عاتبهم على ذلك . ويؤيد هذا قوله : { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما }


[894]:- مسلم 1864.