قوله تعالى{[17802]} : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } الآية . لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم .
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر ، حين طابت ثمار المدينة ، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه ، وكان ذلك في حر شديد ، وسفر بعيد ، ومفاوز ، وعدُو كثير ، وذلك حين طابت ثمار المدينة ، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم ، فشقَّ عليهم الخروج ، وتثاقلُوا ، فنزلت هذه الآية{[17803]} .
ومعنى : " إِذَا قِيلَ لَكُمُ " أي : قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم " انفِرُوا " اخرجوا ، واسم القوم الذين يخرجون النفير .
قوله : " اثاقلتم " أصله " تثَاقلْتُم " فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] ، والأصل : " تَدَارَأتُم " . وقرأ{[17804]} الأعمشُ " تثاقَلْتُم " بهذا الأصل و " ما " في قوله : " مَا لَكُمْ " استفهامية ، وفيها معنى الإنكار .
وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول . " اثَّاقَلْتُمْ " ماضي اللَّفظ ، مضارع المعنى ، أي : تتثاقلون ، وهو في موضع الحالِ ، وهو عاملٌ في الظَّرف ، أي : ما لكم متثاقلين وقت القول .
وقال أبُو البقاءِ{[17805]} : " اثَّاقلتم : ماض بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وهو في موضع نصب ، أي : أيُّ شيء لكم في التَّثاقل ، أو في موضع جر على رأي الخليلِ . وقيل : هو في موضع حال " .
قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد ؛ لأنه يلزم منه حذفُ " أنْ " لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ " أنْ " في هذا قليلٌ جداً ، أو ضرورة . وإذا كان التقديرُ في التثاقل ، فلا يمكن عمله في " إذا " لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه ، فيكون النَّاصب ل " إذا " والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به " لَكُم " الواقعُ خبراً ل " ما " وقرئ{[17806]} " أثَّاقلْتُم " بالاستفهام الذي معناه الإنكار ، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في " إذا " ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في " لكم " ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ ، والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم ، وإليه نحا الزمخرشي .
والظَّاهر أن يقدَّر : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم ، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى .
وقوله : " إِلَى الأرض " ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْل والإخلاء ، فعدي ب " إلى " والمعنى : تباطأتم إلى الأرض ، أي : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، وملتم إلى الدنيا وشهواتها ، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه ، ونظيره قوله { أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] قال المفسِّرون : معناه : اثاقلتم إلى نعيم الأرض ، وإلى الإقامة وبالأرض .
قوله { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا } أي : بخفض الدنيا ودعتها . وقوله : { إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } جناس لفظي ]{[17807]} ، وكذا قوله : { اصبروا وَصَابِرُواْ } [ آل عمران : 200 ] ، وقوله : { أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] وقوله : { يا أسفا عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] ، وقوله : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 44 ] ، وقوله : { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] ، وقوله : { على عِلْمٍ عَلَى العالمين } [ الدخان : 32 ] وقوله { مَالِكَ الملك } [ آل عمران : 26 ] .
قوله " مِنَ الآخرة " تظاهرت أقوالُ المعربين ، والمفسرين على أنَّ " مِنْ " بمعنى " بدل " كقوله { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] ، أي : بدلكم ؛ ومثلة قول الآخر : [ الرجز ]
جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا *** ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا{[17808]}
فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ *** مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ{[17809]}
إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى ، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك ، والتقدير هنا : اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا ، وكذلك باقيها .
وقال أبُو البقاءِ{[17810]} : " مِنَ الآخرة " في موضع الحال ، أي : بدلاً من الآخرة . فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً ، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى . ثم قال : " فما متاع الحياة الدنيا " أي : لذاتها . وقوله " فِي الآخرةِ " متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى ، تقديره : فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة ف " محسوباً " حالٌ مِنْ " متاعُ " .
وقال الحوفي : إنَّه متعلق ب " قَلِيلٌ " ، وهو خبر المبتدأ قال : " وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن ب " إلاَّ " ؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال ، ولو قلت : ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب ، لم يَجُزْ " .
الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل ، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات ، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة ، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ ، ودائمة أبدية سرمدية ، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.