إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

{ يأيها الذين آمنوا } رجوعٌ إلى حث المؤمنين وتجريدِ عزائمِهم على قتال الكفرةِ إثرَ بيان طرَفٍ من قبائحهم الموجبةِ لذلك { مَا لَكُمْ } استفهامٌ فيه معنى الإنكارِ والتوبيخ { إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا في سَبِيلِ الله اثاقلتم } تباطأتم وتقاعستم أصلهُ تثاقلتم وقد قرىء كذلك ، أي أيُّ شيءٍ حصل أو حاصلٌ لكم أو ما تصنعون حين قال لكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «انفِروا » أي اخرُجوا إلى الغزو في سبيل الله متثاقلين ، على أن الفعلَ ماضٍ لفظاً مضارعٌ معنىً كأنه قيل : تتثاقلون ، فالعاملُ في الظرف الاستقرارُ المقدرُ في لكم أو معنى الفعلِ المدلولِ عليه بذلك ويجوز أن يعملَ فيه الحالُ أي ما لكم متثاقلين حين قيل لكم : انفِروا وقرىء أَثّاقلتم على الاستفهام الإنكاريِّ التوبيخيِّ ، فالعاملُ في الظرف حينئذ إنما هو الأول { إِلَى الأرض } متعلقٌ باثاقلتم على تضمينه معنى المَيْلِ والإخلادِ أي اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتِها الفانيةِ عما قليل ، وكرِهتم مشاقَّ الغزوِ ومتاعبَه المستتبِعةَ للراحة الخالدة ، كقوله تعالى : { أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] أو إلى الإقامة بأرضكم وديارِكم وكان ذلك في غزوة تبوكَ في سنة عشرٍ بعد رجوعِهم من الطائف استُنفِروا في وقت عُسرةٍ وقَحطٍ وقَيْظ ، وقد أدركت ثمارُ المدينة وطابت ظلالُها مع بعد الشُّقةِ وكثرةِ العدوِّ فشق عليهم ذلك ، وقيل : ما خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا ورَّى{[353]} بغيرها إلا في غزوة تبوكَ فإنه عليه الصلاة والسلام بيّن لهم المقصِدَ فيها ليستعدوا لها { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وغرورِها { مِنَ الآخرة } أي بدلَ الآخرة ونعيمِها الدائم { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا } أظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير أي فما التمتعُ بها وبلذائذها { في الآخرة } أي في جنب الآخرة { إِلاَّ قَلِيلٌ } أي مستحقَرٌ لا يُؤبَه له ، وفي ترشيح الحياةِ الدنيا بما يُوذِن بنفاستها ويستدعي الرغبةَ فيها وتجريدِ الآخرة عن مثل ذلك مبالغةٌ في بيان حقارة الدنيا ودناءتِها وعِظَمِ شأن الآخرةِ وعلوِّها .


[353]:أي سترها وكنى عنها وأوهم أنه يريد غيرها. وأصله من الوراء، أي ألقى البيان وراء ظهره.